مضى من شهر رمضان ثلثاه، وبقي منه الثلث، ثلث هو مسك الختام، وهو أفضل أيامه وأجلها، وزبدتها وثمرتها.
كان الصالحون، رضي الله عنهم، يعملون بشعار “فضائل الأعمال لفضائل الأوقات”، والثلث الأخير من شهر رمضان أفضل الأيام، فيه ليلة القدر، وفيها نزل القرآن الكريم،إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرَِ ومَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (سورة القدر)، ولقوله تعالى كذلك إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (الدخان: 3).
وقد صح عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وغيرهم، رضي الله عنهم أجمعين، أن الليلة التي أنزل فيها القران هي ليلة القدر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد البشر وأحبهم إلى الله عز وجل، وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، إذا حلت العشر الأواخر يجتهد فيها اجتهادا حتى لا يكاد يقدر عليه، فقد روى الإمام مسلم رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها”، وجاء في الصحيحين عنها رضي الله عنها أنها قالت “كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم فإذا كان العشر شمر وشد المئزر” وكان صلى الله عليه وسلم يجتهد ويوصي أهله بذلك فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله”، وفي رواية: “أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجد، وشد المئزر” رواه البخاري ومسلم رحمهما الله. وقولها رضي الله عنها “وشد مئزره” كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها زيادة على المعنى المعتاد وهو التشمير في العبادات، وقيل هو كناية عن اعتزال النساء وترك الجماع، وقولها رضي الله عنها: “وأيقظ أهله” أي: أيقظ أزواجه للقيام ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في سائر الأيام، ولكن كان يوقظهم لقيام بعض الليل، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال: “سبحان الله ماذا أُنزل الليلة من الفتن! ماذا أُنزل من الخزائن! من يوقظ صواحب الحجرات؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة” وفيه كذلك أنه كان صلى الله عليه وسلم يوقظ عائشة رضي الله عنها إذا أراد أن يوتر. لكن إيقاظه صلى الله عليه وسلم لأهله في العشر الأواخر من رمضان كان أبرز منه في سائر السنة.
وتأسيا بذلك كان سفيان الثوري رضي الله عنه يقول: (أحب إليّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك).
وقد صح عن النبي الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يطرق فاطمة وعلياً ليلاً فيقول لهما: “ألا تقومان فتصليان” رواه البخاري ومسلم رحمهما الله. ولأنها ليالي وأياما فاضلات فقد خصها الله تعالى بأعمال تجعل المومن في حالة يقظة قلبية دائمة وارتباط به سبحانه وتعالى بعيدا عن كل المشوشات والصواد. ومن أهم الأعمال الاعتكاف.
الاعتكاف
والاعتكاف هو: لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل. قال الله تعالى: ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، واعتكف أزواجه وأصحابه معه وبعده. وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً”.
والمقصود بالاعتكاف: انقطاع الإنسان عن الناس ليتفرغ لطاعة الله، ويجتهد في تحصيل الثواب والأجر وإدراك ليلة القدر، ولذلك ينبغي للمعتكف أن يشتغل بالذكر والعبادة، ويتجنب ما لا يعنيه من حديث الدنيا، ولا بأس أن يتحدث قليلا بحديث مباح مع أهله أو غيرهم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف هذه العشر كما جاء في حديث أبى سعيد رضي الله عنه أنه اعتكف العشر الأول ثم الوسط، ثم أخبرهم أنه كان يلتمس ليلة القدر، وأنه أريها في العشر الأواخر، وقال: “من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر” وعن عائشة رضي الله عنها “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده” متفق عليه.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال الأئمة الأربعة وغيرهم رحمهم الله (يدخل قبل غروب الشمس، وأولوا الحديث على أن المراد أنه دخل المعتكف وانقطع وخلى بنفسه بعد صلاة الصبح، لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف).
ليلة القدر
سميت كذلك لأنها ليلة ذات قدر، والقدر من التعظيم لأن فيها نزل القرآن، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر، قال الإمام النخعي: (العمل فيها خير من العمل في ألف شهر سواها). وقيل: القدر التضييق، ومعنى التضييق فيها إخفاؤها عن العلم بتعيينها، وقال الخليل بن أحمد رحمه الله: إنما سميت ليلة القدر لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرتهم فيها تلك الليلة، قال تعالى: وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه (سورة الفجر 16)، أي ضيق عليه رزقه. وقيل: القدر بمعنى القدَر – بفتح الدال – وذلك أنه يُقدّر فيها أحكام السنة كما قال تعالى: فيها يفرق كل أمر حكيم. ولأن المقادير تقدر وتكتب فيها.
سماها الله تعالى ليلة القدر وذلك لعظم قدرها وجلالة مكانتها عند الله ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها فهي ليلة المغفرة كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه”. وقد جمعت هذه الليلة فضائل عدة منها:
1- نزل فيها القرآن، قال ابن عباس وغيره رضي الله عن الصحابة أجمعين: (أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم).
2- وصْفها الله عز وجل بأنها خير من ألف شهر في قوله: ليلة القدر خير من ألف شهر (سورة القدر: 3).
3- وصفها بأنها مباركة في قوله: إنا أنزلنه في ليلة مباركة (سورة الدخان: 3).
4- أنها تنزل فيها الملائكة والروح، (أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحِلَق الذِّكْر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيماً له).
5- ووصفها بأنها سلام، أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو يعمل فيها أذى كما قاله مجاهد رحمه الله، وتكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم العبد من طاعة الله عز وجل.
6- فيها يفرق كل أمر حكيم، أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها، كل أمر محكم لا يبدل ولا يغير، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وكتابته له، ولكن يُظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو وظيفتهم.
7- أن الله تعالى يغفر لمن قامها إيماناً واحتساباً ما تقدم من ذنبه، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه” متفق عليه. وقوله: إيماناً واحتساباً، أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه وطلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه.
ويستحب تحريها في العشر الأواخر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان”. وهي في أوتار العشر آكد، لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر”. وسبب الخلاف حول تعيينها ذكره صحابي جليل، فقد جاء في صحيح البخاري رحمه الله عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا ليلة القدر فتلاحى (أي تخاصم وتنازع) رجلان من المسلمين، فقال: “خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرُفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة”. وفي هذا الحديث دليل على شؤم الخصام والتنازع، وبخاصة في الدِّين وأنه سبب في رفع الخير وخفائه. وهي في ليلة سبع وعشرين أرجى ما تكون، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر عند أحمد ومن حديث معاوية عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ليلة القدر ليلة سبع وعشرين” وكونها ليلة سبع وعشرين هو مذهب أكثر الصحابة وجمهور العلماء، حتى أبيّ بن كعب رضي الله عنه كان يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، قال زر ابن حبيش: فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالعلامة، أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم “أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها” (رواه مسلم). ورجّح بعض العلماء أنها تتنقل وليست في ليلة معينة كل عام، قال النووي رحمه الله: (وهذا هو الظاهر المختار لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك، ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها). قال ابن حجر عقب حكايته الأقوال في ليلة القدر: (وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأواخر وأنها تنتقل) قال العلماء: (الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها) وإنما أخفى الله تعالى هذه الليلة ليجتهد العباد في طلبها، ويجدّوا في العبادة، كما أخفى ساعة الجمعة وغيرها. فينبغي للمؤمن أن يجتهد في أيام وليالي هذه العشر طلباً لليلة القدر، اقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم، وأن يجتهد في الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل. ويستحب الدعاء فيها بدعاء مأثور لقنه الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها فعنها قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت أن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: قولي: “اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني” رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة رحمهم الله. وسنده صحيح.
وختاما
أصلح النية وجدد العزم واشحذ الهمة حتى لا تفوتك ليلة بدون إحياء، ولا لحظة بدون ذكر وابتعد عن أبناء الدنيا واستعض عنهم بصحبة تدلك على الله فالمرء على دين خليله والذئب يأكل من الغنم القاصية. والله تعالى قال: الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (الزخرف: 67). لا تشغل وقتك بالأعمال المفضولة فمن غفلة المؤمن اشتغاله بالمفضول عن الفاضل من الأعمال، وعدم مراعاة واجب الزمان والمكان. وكن من عمار المساجد وعلق قلبك بها. واذكر ربك بالغدو والآصال وبكرة وعشيا واذكره في نفسك وَدون الجهرِ من القول ولا تكن من الغافلين. احرص ألا ترى ولا تسمع إلا ما يرضي وخير ما تسمع كلام الله وخير ما ترى كتاب الله فهذا شهر القرآن فاجتهد في قراءته وحفظه وتدبره والعمل به، وتذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قرآنا يمشي بين الناس. واجتهد في طرد كل الخواطر الحاجبة عن دوام التعلق بالله. لا إله إلا الله محمد رسول الله. عليه صلاة الله وسلام الله.
فلا تشتغل إلا بما يكسب العلا ** ولا ترض للنفس النفسية بالردى
وفي خلوة الإنسان بالعلم أُنسه ** ويسلم دين المـرء عند التوحد
ويسلم من قال وقيل ومن أذى ** جليس ومـن واش بغيظ وحسدِ
وخيـر مقـام قمت فيه وحلية ** تحليتها ذكـر الإله بمسـجـد