جعل الله تعالى لخلق الإنسان حكما عظيمة، يشهد بها الوجود وتؤكدها عنايته الرحيمة بالتفاصيل الدقيقة التي تتصل بكل مخلوقاته، وما يحيط بها من أحداث وأفعال عباده، يقول عز وجل: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115]؛ من أسنى هذه الحكم توحيد الله وعبادته وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وكوّن الأكوان وخلق السماوات والأرض والموت والحياة للابتلاء والاختبار وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7]، فكان لابد أن يجمع الناس في دار جزاء يوافق جنس أفعالهم؛ يثيب المحسنين الجنة والعاصين النار.
لذلك كانت الدنيا مزرعة للآخرة، يتدرج فيها الصالحون في مقامات العبادة والقرب من الله تعالى؛ إسلاما فإيمانا فإحسانا، ويتنافسون على أعمال البر والتقوى، هدفهم الأسمى السلوك إلى الله وتقوية الصلة به محبة وطاعة، والفوز بجنانه والعتق من نيرانه.
والمسلمون في سيرهم هذا يتقلبون بين خوف ورجاء؛ خوف من أن ترد أعمالهم أو بعضها أو يختم لهم بغير ما يحبون، ورجاء في الحنان المنان أن يهديهم سبل الفلاح ويثبتهم على طريق الحق ويختم بالصالحات أعمالهم طمعا في رضوانه وبلوغ جناته، بل ولفرط حرصهم على الطاعات وتجنب المعاصي لا يأمنون وعثاء الطريق، فعن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “لو نادى مناد من السماء: أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم أجمعون إلا رجلا واحدا، لخفت أن أكون هو. ولو نادى مناد أيها الناس إنكم داخلون النار إلا رجلا واحدا لرجوت أن أكون هو” 1.
ولعل أعظم ما يمكن أن يحوز المؤمن الصادق وهو في الحياة الدنيا؛ عالم الكد والعمل، أن يظفر من المولى عز شأنه بعهد يدخله الجنة، يبشره به سيد الخلق ومبلّغ الحق مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما حاز شرفه صحابة كرام بررة.
ومعلوم أن الصحابة هم بطانة رسول الله ﷺ وخاصته، اختارهم الله لصحبته والقيام بواجب الدين معه، وقد حازوا بذلك شرف المعية والتلمذة على يد سيد ولد آدم، فكانوا أقربهم إليه محبة وسلوكا، وكان تسليمهم أنفسهم لله ورسوله تسليما كاملا.
إنهم خيار الأمة، رضي الله تعالى عنهم بدليل قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100]، ودليل إنعام مولانا رسول الله ﷺ عليهم بوسام الخيرية؛ عن عمران بن حُصَيْن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ..” 2، واعتبارهم أمنة الأمة؛ عن أبي مُوسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال رسول الله ﷺ: “النُّجومُ أَمَنةٌ للسَّماءِ، فإذا ذَهَبَتِ النُّجومُ أتى السَّماءَ ما تُوعَدُ، وأنا أَمَنةٌ لأصحابي فإذا ذَهَبْتُ أتى أصحابي ما يُوعَدونَ، وأصحابي أَمَنةٌ لأمَّتي فإذا ذَهَبَ أصحابي أتى أمَّتي ما يُوعَدونَ” 3، ومدحهم والنهي عن بغضهم أو سبهم؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تَسُبُّوا أصْحابِي، لا تَسُبُّوا أصْحابِي، فَوالذي نَفْسِي بيَدِهِ لو أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهبًا، ما أدْرَك مُدَّ أحَدِهِم، ولا نَصِيفَه” (المد: ما يَمْلأُ الكفَّينِ) 4.
فيهم رضوان الله عليهم أجمعين، قال القرطبي: “مِن المعلوم الذي لا يُشك فيه؛ أن الله تعالى اختار أصحاب نبيه لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولإقامة دينه، فجميع ما نحن فيه مِنَ العلوم والأعمال، والفضائل والأحوال، والمتملكات والأموال، والعز والسلطان، والدين والإيمان، وغير ذلك مِنَ النعم التي لا يحصيها لسان، ولا يتسع لتقديرها زمان إنما كان بسببهم” 5.
فهم بعد مولانا رسول الله ﷺ مصابيح الأمة، اختص صلى الله عليه وسلم الكثير منهم بزيادة الفضل، فبشرهم بغاية المنى وأسعد مآل؛ جنات عدن، ومنهم من عُرفوا بالعشرة المبشرين الذين جمعهم الحديث الشريف: عَن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “أبُو بَكرٍ في الجَنَّةِ، وعُمرُ في الجَنَّةِ، وعُثمانُ في الجَنَّةِ، وعَليٌّ في الجَنَّةِ، وطَلحةُ في الجَنَّةِ، والزُّبَيرُ في الجَنَّةِ، وعَبدُالرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ في الجَنَّةِ، وسَعدٌ في الجَنةِ، وسَعيدٌ في الجَنَّةِ، وأبُو عُبيدةَ بنِ الجَرَّاحِ في الجَنَّةِ” 6.
فما صنائعهم المميزة التي بوأتهم هذا المقام الرفيع؟ وكيف أضحت أحوالهم بعد هذا التشريف؟
هذا ما تروم هذه السلسلة ملامسة بعض جوانبه في حلقات مفردة لكل صحابي جليل؛ علنا نقتبس من أحوالهم وأنوارهم ما به نقتفي أثرهم ونطلب جزاءهم والكينونة معهم؛ في الدنيا متابعة وفي الآخرة مرافقة. فباسم الله نبدأ وعلى الله تعالى نتوكل.
[2] رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533).
[3] من حديث: عن أبي مُوسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: صَلَّينا المَغرِبَ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثُمَّ قُلْنا: لو جَلَسْنا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ العِشاءَ. قال: فجَلَسْنا فخَرجَ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ما زِلتُم هاهُنا؟ قُلْنا: يا رَسولَ اللهِ صَلَّينا مَعَكَ المَغرِبَ، ثُمَّ قُلْنا: نَجلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ العِشاءَ، قال: أحسَنْتُمُ أو أصبَتُم. قال: فرَفعَ رَأسَه إلى السَّماءِ -وكانَ كثيرًا ما يَرفَعُ رَأسَهُ إلى السَّماءِ- فقال: “النُّجومُ أَمَنةٌ للسَّماءِ، فإذا ذَهَبَتِ النُّجومُ أتى السَّماءَ ما تُوعَدُ، وأنا أَمَنةٌ لأصحابي فإذا ذَهَبْتُ أتى أصحابي ما يُوعَدونَ، وأصحابي أَمَنةٌ لأمَّتي فإذا ذَهَبَ أصحابي أتى أمَّتي ما يُوعَدونَ” [رواه أحمد (2 \ 398 – 399)، ومسلم (2531)]
[4] رواه مسلم (2541) والبخاري (3673) باختلاف يسير.
[5] أبو العباس القرطبي، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، باب وجوب احترام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والنهي عن سبهم، الحديث 2444، ج 6، ص 492.
[6] أخرجه الترمذي (3747) واللَّفظُ له، وأحمد (1675)، والنسائي في “السنن الكبرى” (8194).