إشكالية الفعل النقابي وقيادة الدينامية الاجتماعية الرامية إلى تحرير الطبقة العاملة من الاستضعاف الذي تعانيه، ستظل دائما إشكالية محورية تحتاج إلى تحليل ودراسة، وتفكيك لفهم جوهر العلاقة النظرية والعلمية والعملية بين واقع النقابية المغربية، والمرجعيات المؤطرة لها، والعوامل التي تعتمل اليوم من داخل الجسم النقابي المغربي، والواقع البئيس الذي تعيشه الإطارات النقابية المغربية المسهم في الوضع الاجتماعي كجزء من منظومة ونسق كلي مأزوم، مما يطرح جملة من التساؤلات التفصيلية الجزئية، وهي بالتبع نتيجة إجرائية لواقع الشغيلة من قبيل: هل فقدت النقابية المغربية زمام المبادرة؟ أم لا تمتلكها أصلا؟ ما جدوى الفعل النقابي؟ ما موقع النقابة في التدافع المجتمعي؟ هل تمتلك النقابية المغربية مشروعا تحريريا للإنسان؟ أم هي مجرد أدوات للتهوية السياسية والتنفيس عن الاحتقان الاجتماعي؟ هل الانخراط في النقابية المغربية انخراط واع ومسؤول وله آفاق استراتيجية؟ أم تكتيك مرحلي للتمرس واستثمار الفرص؟ وعليه ما آفاق الوحدة النقابية التي ترفعها جل المركزيات؟ أهي وحدة على قاعدة نقط برنامجية مطلبية، أم وحدة مرجعية على قاعدة تنوع التنظيمات وتنهيج الفعل النقابي وتسليكه لخدمة المقاصد الكبرى والغايات الكلية للمشروع المجتمعي التحريري للإنسان؟
إن معالجة هذه التساؤلات يقتضي منا إعمال مقاربة تركيبية تمزج بين النظري التصوري والممارسة الميدانية والتجربة الفعلية.
يعتصر ضمير الشغيلة المغربية أسئلة المستقبل في ظل شروط لا تحقق أدنى مستويات الكرامة فتتناسل الأسئلة وتعتمل داخل نفسيات الطبقة المسحوقة المكتوية بلهيب الأسعار المرتفعة، وتكلفة الحاجيات الاجتماعية المثقلة لكاهل الأغلبية من المغاربة، أسئلة تدور في فلك أذهان طبقة متعلمة، لطالما تبحث عن جواب مقنع تموقعه في خريطتها الذهنية، ولكن دون جدوى، لأن التساؤلات جوهرية وعميقة وتصطدم بجدران من التناقضات العجيبة.
طبعا لا يوجد أحد من هؤلاء ينكر أهمية العمل النقابي، وجدوائيته من الناحية المبدئية، بل تجدنا مقتنعين حتى المشاشة بدور النقابة المحوري، ومركزيتها في بناء الأمم وقيادة الفعل الاجتماعي، بل وقيادتها أحيانا وفي تجارب تاريخية مقارنة للفعل السياسي، وخاصة في المراحل المفصلية التحولية للشعوب، وليس آخرها دور الاتحاد العام للشغل التونسي الذي لعب دور الوسيط بين القوى الوطنية لتدبير المرحلة التاريخية، وغير ذلك من التجارب كثيرة خاصة مع نقابات الطلاب والعمال في جل تجارب الثورات الناجحة.
إن الاقتناع المبدئي والتصوري بأهمية العمل النقابي، وبفضل الشرعية الميدانية والتاريخية لنقابات ظلت لصيقة بهموم الشعب، ورفيقة لمعاناته، ومعانقة لمطالبه، انبرت الطبقة الشغيلة لهذا العمل، وأعطت للمركزيات النقابية الولاء، وأبلت معها البلاء، لما كانت النقابة مدرسة للتكوين والتأطير، وتخريج رجال حملة مشروع تغييري، ورائدة فعل اجتماعي راشد، فماذا حصل يا ترى؟
منذ ما يسمى بمسلسل الحوار الاجتماعي، وتدشين “السلم الاجتماعي”، وانخراط الفاعل النقابي في سيرورة الادماج في مشروع المخزن، ومقايضة النضال الجماهيري بأبعاده المطلبية والاجتماعية والإشعاعية والتكوينية والتواصلية والتأطيرية والترافعية، وقد كانت النقابة تلعب أدوارا طلائعية في هذه المجالات، بالمساهمات المالية الضخمة التي تضخها الدولة في حسابات المركزيات النقابية كل سنة، تحت مسمى “الدعم” وغض الطرف عن الحسابات والتدقيقات، كانت النتيجة الطبيعية ارتكان الفعل النقابي إلى مفاوضات وحوارات ولجن مشتركة، واختزال المعادلة في تدبير ملفات جزئية من قبيل الحركة الانتقالية وكوطة التمثيليات، ومجاذبات على “الفتات”، وكل ذلك على حساب كافة الفئات، ولا حول ولا قوة الا بالله رب الأرض والسماوات.
بذلك امتزجت ألوان النقابات لتصطبغ بلون واحد، لون لا تشتم فيه رائحة التأطير والإشعاع والتوجيه والقيادة التاريخية للمشروع التحريري، بل لا خبر عند النقابية الجديدة لهذه المفاهيم المنتظمة في نسق فكري، مؤطر وموجه وبناء لوعي مجتمعي قمين بتحريك دينامية التجديد والفاعلية في الواجهة الاجتماعية، وقادر على تكثيف الجهود نحو قيادة الفعل الاجتماعي الفاتل في حبل بناء جبهة قوية لمواجهة التحديات وراسمة لمعالم الخريطة المستقبلية المنشودة
إن هذه الإفاق الاستراتيجية أقبرت منذ سقوط النقابية الجديدة في وهدة الخبزية، وانسلاخ الفعل النقابي عن هويته التحررية، وانزلاق القيادة إلى قاع “التمخزن”، وبين هذا الواقع البئيس والآفاق المأمولة تظل آليات المقاومة تعتمل من داخلها للإصلاح والتغيير، ويظل صوت التعقل ينادي من عمقها أن هلموا إلى وحدتنا ووعيينا الاستراتيجي لهندسة مستقبل واعد.