العنف ضد النساء بين الانحدار القيمي وضعف الوعي الأخلاقي

Cover Image for العنف ضد النساء بين الانحدار القيمي وضعف الوعي الأخلاقي
نشر بتاريخ

يعد العنف ضد النساء من أخطر الظواهر الاجتماعية التي تنخر جسد المجتمعات في صمت مطبق؛ لا لأنه يمس نصف المجتمع فحسب، بل لأنه يفضح اختلالا عميقا في البنية القيمية والضمير الجمعي. فهو مرآة تتقاطع على سطحها أعطاب التربية، وضبابية الوعي، واعوجاج النظرة إلى المرأة كإنسان كامل الكرامة والحقوق.

إن كل ممارسة عنيفة تجاه المرأة، كيفما كان شكلها أو درجتها، ليست حادثة معزولة، بقدر ما هي مظهر لنظام ثقافي يختل فيه ميزان العدالة، وتترسخ فيه تصورات تبرر الإيذاء وتشرعن الإخضاع. ومن ثم، فإن العنف ضد النساء ليس مجرد انحراف سلوكي فردي، بل هو علامة إنذار حادة على أزمة أخلاقية تتجاوز حدود البيت إلى الفضاء الاجتماعي برمته.

العنف أزمة وعي قبل أن يكون أزمة سلوك

 إن التعدي على المرأة ليس ممارسة معزولة، بل منظور فكري يشرعن السيطرة والتقليل من قيمة الإنسان، ويترجم ظاهره بوضوح لحالة غياب النضج الأخلاقي وانعدام احترام الآخر، وهو دليل على ضعف داخلي لدى المُعنِّف لا على قوته. ولعلّ ما قاله الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، لَيضع حجر الأساس في هذا النقاش حين يمنع على الرجل التعنيف على المرأة أو إهانتها لأنه “لا يهينها إلا لئيم ناقص. تعامل بالإحسان، إحسان الرجل الروحي يفيض عليها رفقا وعطفا ومحبة وودا” 1. جملة تختصر رؤية واضحة، ومنهاجا نبويا بينا لعلاقة تشاركية مثمرة تقوم على التقدير لا التبخيس، لأن العنف ليس قوة، بل سقوط أخلاقي وسلاح من لا قدرة له ولا حجة. 

ورغم أن هذه الظاهرة تختلف حدتها من مجتمع لآخر، فإن جوهرها يبقى واحدا؛ انتهاك كرامة الإنسان والتقليل من قيمته، في مخالفة صريحة لأبسط مبادئ العدالة والإنصاف.

تنويعات العنف وحدود الإحصاء

تتنوع أشكال العنف ضد النساء بين النفسي والجسدي والاقتصادي والجنسي، لكن خيطها المشترك هو إلغاء كرامة المرأة وإخضاعها. فمن باب التمثيل لا الحصر، ووفقا لمنظمة الصحة العالمية فإنه قد “تعرض ما يقرب من امرأة واحدة من كل ثلاث نساء، ما يقدر بنحو 840 مليون امرأة على الصعيد العالمي، لعنف الشريك أو للعنف الجنسي خلال حياتهن، وهو رقم لم يطرأ عليه تغيير كبير منذ عام 2000. وفي الأشهر الاثني عشر الماضية لوحدها، تعرضت 316 مليون امرأة، 11% ممن تبلغ أعمارهن 15 عاما أو أكثر، للعنف الجسدي أو الجنسي” 2

ورغم خطورة الأرقام، فإنها لا تعكس الواقع كاملا، إذ يبقى جزء كبير من العنف خارج الإحصاءات، ومسكوتا عنه بسبب الخوف من الوصم أو القيود الاجتماعية أو العجز عن طلب الحماية.

الهشاشة التاريخية للمرأة

لعل هذا الواقع ليس غريبا عن وضعية المرأة التاريخية، فهي مستضعفة المستضعفين التي انحطت بانحطاط أمتها، فصارت إما مشجبا تعلق عليه خطايا التخلف ومآزق الفتن، أو دمية مسلوبة الإرادة في قصور الأعيان، أو أَمة مقهورة يفعل بها ولا تفعل، أو مستأجرة في عصور الحضارة المزعومة تنتهك قيمتها بين متطلبات عصر الآلة أو جدران بيت كئيب لا يعتبرها إلا وعاء للمتعة ورحما لتفريخ الذرية وساعدا للخدمة.

عاشت المرأة، ولا تزال في كثير من السياقات، داخل أنظمة اجتماعية غير عادلة، انقطعت عن نور الوحي الذي دعاها إلى الكمال، واستسلمت لمنطق الاستلاب وهيمنة الأعراف.

ورغم ذلك، يجب التأكيد أن الحديث عن العنف لا يعني التعميم؛ فهناك ملايين الرجال الذين يحترمون المرأة ويعاملونها بإنسانية ونبل، تماما كما توجد حالات عنف تمارسها النساء أيضا، وإن بنسبة أقل بكثير، وهو ما يوجب التعامل مع الظاهرة بنزاهة فكرية وبُعد عن التحيز. العنف فعل فردي، لكنه يصبح ظاهرة عندما يبرر أو يستساغ اجتماعيا، أو عندما تتحمله الضحية قهرا بدل الجاني. لذلك فإن جوهر الإشكال لا يكمن فقط في الفعل، بل في البنية الذهنية التي تشرعنه أو تصمت عنه.

من هنا، يغدو دور المؤسسات التربوية والإعلامية والدينية محوريا في ترسيخ قيم الاحترام والتوازن داخل الأسرة. كما يصبح تطوير آليات الحماية القانونية وتفعيلها أمرا ضروريا، بحيث تشعر المرأة بأن الشكوى ليست مخاطرة، بل حقا مكفولا لها. ومن دون إصلاح جذري لطريقة فهم المجتمع للعلاقة بين الجنسين، سيظل العنف مشكلة تتوارثها الأجيال.

البعد النفسي والاجتماعي للعنف

إن فهم العنف لا يكتمل من دون تحليل أسبابه النفسية والنفاذ إلى جذوره الاجتماعية، وتلمس دواعيه المستهجنة؛ فالعنف ليس فعلا طارئا، بل مظهر لخلل داخلي يتخذ القمع بديلا عن الحوار، ويستعيض عن التفاهم بممارسة الإخضاع، ويتخذ من القوة المرَضية سبيلا للإذلال عوض الإقناع. إن العنف حالة تتراكب فيها هشاشة الذات مع ضيق الأفق، فيغيب الاحترام ويتقدم الترهيب، ويخفت صوت العقل أمام نزوة السيطرة. تبرز هنا مقولة معبرة للدكتور مصطفى حجازي، في تحليله للعنف في كتاب سيكولوجية الإنسان المقهور، يقول: “بدل الفهم والحوار الذي لا يقوم إلا في حالة التكافؤ الإنساني، هناك لغة السوط القمعي، بدل الإقناع، هناك الإخضاع” 3.

وهذا التشخيص يكشف أن العنف، في جوهره، وهمُ قوة يلوذ به صاحبه حين يعجز عن التعبير السوي أو بناء علاقة ندية متوازنة. فالمعنف يظن أنه يفرض سلطته على الآخر، لكنه في الحقيقة يفضح اضطرابه الداخلي، ويمارس سلوكا يدمر به الآخرين بقدر ما يمزق ذاته من الداخل. وهكذا يصبح العنف ليس مجرد اعتداء، بل انعكاس لتصدعات نفسية واجتماعية تبحث عن ترميم زائف عبر سلطة مريضة لا تنجب إلا مزيدا من الخراب.

دور المؤسسات ومسؤولية المجتمع

إن ممارسة العنف ضد النساء ليس قضية نسائية محضة، ولا قدرا محتوما لا فكاك عنه، ولا مجرد سلوك فردي منحرف، كما لا يمكن اعتباره شأنا عائليا معزولا يمارس داخل الجدران المغلقة، ولا قدرا اجتماعيا.

 محاربة هذا العنف هي في جوهرها معركة من أجل إنسانية المجتمع نفسه؛ مجتمع يهان نصفه لن يبلغ أبدا مراتب التقدم والازدهار. إنه قضية مجتمعية تمس تماسك الأسرة وتقوض استقرار المجتمع، وتشي بانهيار قيم إنسانية أساسية، وفعل يعكس ثقافة اجتماعية تعيد إنتاج التمييز وتطبيع المظلومية. إنه نتاج ثقافة يمكن إعادة صياغتها حين تتوافر الإرادة المجتمعية والمؤسساتية لذلك.

وفي هذا السياق، يصبح اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد النساء لحظة ضرورية لإعادة طرح السؤال القيمي والأخلاقي حول مسؤوليتنا الجماعية في حماية المرأة وصون كرامتها. لأن المقاربة الوقائية لا تختزل في التشريعات والعقوبات، على أهميتها، بل تتطلب مشروعا تربويا وثقافيا يعمل على ترسيخ قيم العدالة والمساواة والاحترام المتبادل، وتعزيز الوعي بحقوق المرأة، وتفكيك الخطابات المبررة للعنف، وبناء مجتمع متصالح مع قيمه الإنسانية، وتغيير الثقافة التي تطبع العلاقات الإنسانية.

خطوات أساسية لإحداث تحول حقيقي، ينضاف إليها الحرص على الإصلاح الذي يمر عبر المدرسة، والإعلام، والمسجد، والبيت؛ ومن خلال تغيير اللغة، والتربية، وإعادة صياغة التصورات وتمحيص جملة من التمثلات حول المرأة والرجل وطبيعة العلاقات بينهما، وعلى ما ينبغي أن تتأسس عليه، وبناء وعي يحترم الإنسان لكونه إنسانا. كلها مداخل ضرورية لبناء علاقة قائمة على التكامل لا الإخضاع، واحترام الإنسان لكونه إنسانا بعيدا عن أي سلطة يمارسها جنس على آخر.

إن مكافحة العنف ضد النساء، ومواجهة هذا المأزق الإنساني المتغول، تبدأ بإعادة بناء منظومة القيم، كما مر معنا، وتحرير العلاقة بين الرجل والمرأة من منطق السلطة وإعادتها إلى أصلها التكاملي التعاوني القائم على الولاية بينهما، وحفظ الكرامة المشتركة، وصيانة العدالة التي ضمنتها الشريعة بنصوصها ومقاصدها، لها ولأخيها الرجل سواء بسواء.

 كما أن حماية المرأة ليست منة، بل واجب أخلاقي وقانوني وحضاري. ومن دون ذلك، سيبقى الخطاب الإصلاحي مجرد شعارات، وستظل الأرقام ترتفع بينما تنخفض قيمة الإنسان.

خاتمة

ختاما، إن مجتمعا يعجز عن حماية نسائه إنما يعجز، في العمق، عن حماية مستقبله، ويفقد خط الدفاع الأول عن إنسانيته، ويهدم بيديه استقراره. ومواجهة العنف لا تكون بتوليد عنف مضاد، بل بمقارعة الجهل بالوعي، والتعصب بمنظومة قيم راشدة، والعدوان بروح العدل والإنصاف. والإصلاح الحق يبدأ من ترميم الضمير قبل تقنين السلوك، ومن تهذيب المنظور قبل تشديد العقوبات؛ فلا خلاص من دائرة العنف إلا إذا جعلنا من المحبة والكرامة الإنسانية سلاحنا الأول، وتركنا العنف، بكافة أشكاله، خارج المعادلة، أو كما قيل: “صارع بلا توقف، لكن لِيَكن الحب والحِلم جيشك في هذا الصراع، وليكن العنف، بأشكاله جميعا، خارج المعركة”.

بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد النساء نونبر 2025 


[1] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات 1/169.
[2] منظمة الصحة العالمية، 19 نونبر 2025، بيان صحفي، جنيف، https://www.who.int/ar/news/item/28-05-1447-lifetime-toll–840-million-women-faced-partner-or-sexual-violence
[3] مصطفى حجازي، سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي.