تقديم:
نظمت جمعية المبادرة للتوعية الصحية والبيئية بتنسيق مع رابطة العمل النقابي لجماعة العدل والإحسان بتاريخ 2 ماي 2004 ندوة حول رهانات العولمة، شارك فيها الأستاذ محمد منار بمداخلة عنوانها: “العولمة: محاولة لتحليل المفهوم وتشكيل الموقف”. فيما يلي النص الكامل للمداخلة:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحضور الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإني أشكر منظمي هذه الندوة على دعوتهم الكريمة، وإني سعيد بالحضور بينكم لمناقشة موضوع هام ألا وهو موضوع العولمة.
اخترت لمداخلتي عنوان: “العولمة: محاولة لتحليل المفهوم وتشكيل الموقف” وهي تنقسم إلى قسمين، قسم أول بعنوان: “العولمة: محاولة لتحليل المفهوم” وقسم ثاني بعنوان: “العولمة: محاولة لتشكيل الموقف”.
ودون إطالة أخوض مباشرة في الموضوع، سائلا الله عز وجل التوفيق والسداد.
أولا- العولمة: محاولة لتحليل المفهوم
أصبح مصطلح “العولمة” أو “الكوننة” أو”الكونية” أو “الشوملة” من أكثر المصطلحات انتشارا، وذلك ترجمة لكلمة “mondialisation” الفرنسية وكلمة “Globalisation” الإنجليزية. إلا أن كثرة تداول المصطلح، وكثرة النقاشات والكتابات حوله لم تفض إلى مفهوم محدد وموحد للعولمة، فيكاد يكون لكل كاتب مفهومه الخاص حول العولمة، رغم ما يمكن أن يلاحظ من قواسم مشتركة بين كل تلك المفاهيم.
والتماسا للتبسيط والاختصار، وحتى لا يكون لي مفهومي الخاص للعوملة، أكتفي بتعريف الباحث محمد الأطرش للعولمة إذ قال: “إنها تعني اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة، وانتقال الأموال والقوى العاملة، والثقافات والتقانة ضمن إطار من رأسمالية الأسواق الحرة”.
يتضح من هذا التعريف أن المجال المالي والاقتصادي يشكل المجال الحيوي والجوهري للعولمة، وذلك من خلال ربط شبكات الاقتصادات القومية، وتحرير التجارة والمبادلات، وتوحيد الأسواق المالية، وتسهيل تسريب الاستثمارات المباشرة .. إلا أن ذلك لا يعني أن العولمة تقتصر فقط على هذا المجال، فهي تشمل مجالات أخرى سياسية من خلال دعم ونشر ما يسمى بالليبرالية الجديدة، وثقافية في اتجاه نشر ثقافة تروم تنميط المعارف والأذواق والسلوك وفق نمط مادي مصنع…
وقد أثار مفهوم العولمة عدة إشكالات، أقترح ملامستها من خلال ثلاثة أسئلة، وهي:
أ) هل العولمة عولمة واحدة أم عولمات؟
ب) هل العولمة ظاهرة حديثة أم ظاهرة قديمة متجددة؟
ج) هل العولمة خير مطلق أم شر مطلق؟
أ) هل العولمة عولمة واحدة أم عولمات؟
أشار مجموعة من الباحثين إلى أن العولمة ليست واحدة، ولكنها عولمات متعددة. منهم بريث أولاخ ومايكل شيشتر في كتابهما الذي صدر مؤخرا، والذي يحمل عنوان: “إعادة التفكير في العولمة (العولمات)”.
ويمكن رصد تعدد العولمة من خلال رصد تعدد مجالاتها، من مثل “العوملة الاقتصادية”، “العولمة العسكرية”، “عولمة الاتصال”…إلخ. وليس من الضروري تزامن عولمة هذه المجالات إذ يمكن أن تسبق عولمة مجال معين عولمة المجالات الأخرى.
هذا من جهة أولى أما من جهة ثانية، وحسب وجهة نظر خاصة، فيمكن رصد تعدد العولمة بالتمييز بين جانبين: الجانب الأول هو الجانب التقني الوسائلي، والجانب الثاني هو المعياري الفلسفي. فبالنظر إلى تقنيات العولمة خاصة في مجال الاتصال، يمكن الحديث عن عولمة واحدة، لأن نفس التقنيات والوسائل تستعمل في مختلف أنحاء العالم، وإن كان الأمر بنسب متفاوتة. أما بالنظر إلى الجانب المعياري والفلسفي، فيجب استحضار مركز العولمة واتجاهها، وآنذاك يمكن أن تكون العولمة متعددة بكل أبعادها، فنتحدث مثلا عن العولمة بما هي أمركة في وصفنا للعولمة المهيمنة حاليا، والتي تشكل الولايات المتحدة الأمريكية مركزها. ونتحدث عن عولمة النضال في وصفنا للعولمة التي يشكل المنتدى العالمي الاجتماعي مركزها، والتي تمثل اتجاها في مواجهة العولمة الشرسة. ونتحدث عن عولمة الإسلام في وصفنا للعولمة التي يشكل الدعاة إلى الإسلام مركزها والدعوة إلى الإسلام اتجاهها، إلى غير ذلك من العولمات بحسب المركز والاتجاه…
هكذا يبدو أن العولمة واحدة بالنظر إلى جانبها الوسائلي التقني، لكنها تتعدد بتعدد نوع القيمة الفلسفية المعيارية التي تعمل مراكز مختلفة على سريانها في تلك الوسائل المادية التقنية.
وانطلاقا مما سبق يمكن أن نسجل ملاحظتين:
الملاحظة الأولى هي أن القيمة الفلسفية المعيارية مضبوطة إلى حد كبير بامتلاك الوسيلة المادية التقنية، فالذي يمتلك أكثر هو الذي يروج لقيمته الفلسفية أكثر…
الملاحظة الثانية هي أن الوسيلة المادية التقنية تكون في بعض الأحيان مطبوعة بالقيمة الفلسفية المعيارية للحضارة التي أنتجتها، وفي هذه الحالة يكون التعامل الإيجابي مع الوسيلة المادية التقنية مشروط بالوعي بحمولتها الفلسفية المعيارية.
ب) هل العولمة ظاهرة حديثة أم ظاهرة قديمة متجددة؟
هناك من المثقفين من ذهب إلى أن العولمة ظاهرة حديثة، وربطها بالهيمنة الأمريكية المباشرة، ثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا. من هؤلاء الباحث الأمريكي تشومسكي مثلا، لكن أغلب الباحثين ذهبوا إلى أن العولمة مفهوم جديد لظاهرة قديمة.
فظاهرة ترابط العالم بالوسائل المتاحة ظاهرة قديمة، والجديد فقط في كيفية الترابط، وفي المركز الموجه والمهيمن. ففي القرن 19 مثلا كانت القوة المهيمنة ومركز الترابط العالمي هي بريطانيا، محاطة ببعض الدول من مثل ألمانيا وفرنسا. وعملت هذه القوة على نسج شبكات الترابط والهيمنة من خلال عدة وسائل كالمستعمرات والقروض والاستثمارات المباشرة والمبادلات التجارية..
ويذهب الباحثان جوزيف س. ناي وجون د. دوناهيو في تمهيدهما لكتابهما: “الحكم في عالم يتجه نحو العولمة”، والذي هوعبارة عن مجموعة من البحوث لباحثين مرموقين، إلى التمييز بين العالمية والعولمة. فالعالمية حالة يشتمل العالم فيها على شبكات من الاعتماد المتبادل تمتد على مسافات تشمل عددا من القارات. والعولمة هي نوع من العالمية لكنها تسير بشكل أسرع وأرخص وأعمق. فالعولمة المعاصرة تتميز عن فترات العالمية السابقة بالضخامة العظمى والتعقيد والسرعة وبازدياد كثافة العالمية، أي كثافة شبكات الاعتماد المتبادل في مختلف المجالات.
لكن بنوع من التعقيب علىالكاتبين، يمكن أن نؤكد أن العولمة المهيمنة اليوم لا تختلف فقط عن العالميات السابقة من حيث الدرجة (السرعة، الضخامة، ازدياد الكثافة..). ولكن أيضا من حيث النوع، وذلك باستحضار مركزها الذي هو الولايات المتحدة الأمريكية، وباستحضار اتجاهها الذي هو الأمركة في كل أبعادها المصلحية والثقافية.
ج) هل العولمة خير مطلق أم شر مطلق؟
انقسم الباحثون سواء من العرب أو من غير العرب في تحديد الموقف من العولمة المعاصرة، فمنهم من ذهب إلى أنها خير مطلق، وذلك بالنظر إلى ما تتيحه من إيجابيات، خاصة في مجال الاتصال. ومنهم من ذهب إلى أنها شر مطلق وذلك بالنظر إلى طبيعة الهيمنة الأحادية التي تلغي كل خصوصية. ويبدو أن من أسباب اختلاف الموقفين الاختلاف في فهم ظاهرة العولمة وتحديد معناها.
فالذي ينظر إلى العولمة في بعدها الوسائلي التقني يعتبرها خيرا، والذي ينظر إليها في بعدها المعياري المهمين حاليا يعتبرها شرا.
والاستنتاج الذي يمكن استنتاجه من كل ما سبق ومن خلال ملامستنا لسؤال هل العولمة عولمة واحدة أو عولمات متعددة؟ وسؤال هل العولمة ظاهرة حديثة، أم أنها ظاهرة قديمة تتجدد؟ وسؤال هل العولمة خير مطلق أم شر مطلق؟ هو أن العولمة المعاصرة بما هي تطور للعالمية التي تراكمت عبر تاريخ البشرية، والتي تتميز بكثافة شبكات التبادل والترابط قد لا تثير إشكالا، لكن الذي يثير الإشكال هو بعدها الفلسفي المعياري الذي يكرس قيما خاصة ورؤية معينة للإنسان ونظرة خاصة لعلاقاته ومصيره.
وأعتقد أن أفضل تعبير عن العولمة المهيمنة اليوم في بعدها الفلسفي المعياري هو مصطلح الأمركة، وذلك بالنظر إلى مركزها الذي هو الولايات المتحدة الأمريكية، وإلى اتجاهها الذي هو الأمركة، والذي يعني تكريس نظرة بهيمية للإنسان ولنوع العلاقات التي تحكمه، ويمكن صياغة عناوين هذه النظرة فيما يلي: تنميط الاستهلاك، عولمة الجهل بالله، عولمة جهل الإنسان على أخيه الإنسان، العنف لجلب الاحترام، البقاء للأقوى وبعبارة أخرى خيرات العالم للأقوى. عولمة الشذوذ الجنسي، عولمة المخدرات، عولمة التفكك الأسري..
ولعل الواقع الذي يشاهده العالم اليوم في العراق وفلسطين وأفغانستان… ومن خلال صور سجن أبو غريب لدليل ساطع على حقيقة تلك العناوين..
واستعمال مصطلح الأمركة لا يلغي التحالف الأوربي الأمريكي، ولكن من شأنه أن ينمي الاختلافات التكتيكية التي تظهر من فينة إلى أخرى بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا، خاصة في ظل استحضار هذه الأخيرة لخطورة الأمركة.
كما أن مصطلح الأمركة لا يعني أن الشعب الأمريكي بكل فئاته وشرائحه يساهم في صنع العولمة المعاصرة ويستفيد منها. لأن فئات عريضة من هذا الشعب هي الأخرى تعاني الحيف والاضطهاد، وبالتالي فالأمكرة تحيل على الأمريكيين صانعي قرار الشأن العام في مختلف المجالات، ولا يخفى ما لصناع القرار الأمريكي من علاقة بالصهيونية.
بعبارة أخرى إن وصف العولمة المعاصرة بالأمركة لها ما يؤكدها في الواقع من خلال الهيمنة الأمريكية الواضحة، والاستهانة بالقواعد والأعراف الدولية والاستخفاف المذل بمنظمة الأمم المتحدة، كما أن من شأن هذا المصطلح أن يوحد الموقف ليس فقط بين المثقفين ولكن بعض المنظمات الحكومية وغير الحكومية أيضا ومن مختلف القارات، ومن شأنه أيضا أن يجنبنا بعض التباسات مصطلح العولمة الذي قد يوحي بأن هناك تبادلا وتواصلا متكافئ على مستوى العالم…
ثانيا- العولمة: محاولة لتشكيل الموقف:
أعتقد أن تشكيل الموقف من العولمة/الأمركة يحتاج بعد محاولة تحديد المفهوم إلى تقييم بعض نتائج هذه الأمركة في الواقع، وذلك يحتاج إلى تحديد مقياس التقييم، لأن هذا الأخير أي التقييم- يختلف باختلاف المقاييس ومعايير النظر، ولكل مشروع حضاري مقاييسه ومعاييره الخاصة.
وعن قصد آثرت أن أتحدث في البداية عن بعض نتائج الأمركة من خلال التقييم السائد حاليا، والذي تجمع عليه الكثير من المنظمات غير الحكومية والمنتديات المناهضة للعولمة، كما يجمع عليه بعض الكتاب والباحثين، قبل أن أتحدث عن مقياس المسلمين لقياس نتائج الأمركة، لأخلص في الأخير إلى تحديد موقف عملي منها.
وعليه فسأقسم الجزء الثاني من مداخلتي هذه إلى ثلاثة محاور فرعية وهي:
أ- بعض نتائج العولمة/الأمركة.
ب- بأي مقياس نقيس نحن المسلمين العولمة؟
ج- أية مسايرة للعولمة؟
أ- بعض نتائج العولمة/الأمركة:
رغم أن العالم لا يزال في مخاض، يمكن أن نؤكد أن العولمة المعاصرة عرفت تطبيقا لها في الواقع منذ بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، وبصفة خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسقوط جدار برلين، واندلاع حرب الخليج الثانية..
فخلال هذا العقد قال الرئيس الأمريكي السابق، بيل كلينتون: “ستكون العولمة حظ الولايات المتحدة الواعد، ولن تشكل أية عرقلة لتقدمها، ستقيم عالما جديدا، بحدود جديدة يجب توسيعها. ولن يشكل قيام العولمة أي تهديد لنا بل بالعكس سنكون في طليعة المستفيدين منه..”
وقال أيضا: “إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل جنس بشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاما مقدسا لنحول العالم إلى صورتنا”.
إذا كان القول الأول يستحضر العولمة في بعدها المادي والتقني فالقول الثاني يستحضر العولمة في بعدها المعياري والفلسفي، أي في بعد الأمركة.
الآن بعد أن أصبحت العولمة/الأمركة واقعا عالميا من خلال هيمنة الأمريكيين المتصهينين على صندوق النقد الدولي، والبنك العالمي، ومنظمة التجارة العالمية، وعلى كبرى الشركات متعددة الجنسية، كل ذلك في المجال المالي والاقتصادي. وهيمنتها على المؤتمرات الدولية (مؤتمر المرأة، مؤتمر الطفل..) اجتماعيا. وهيمنتها بل استخفافها بالأمم المتحدة سياسيا.
الآن بعد أن تحققت تقريبا تلك الهيمنة الشاملة حري بنا أن نقف عند بعض نتائج هذه العولمة/الأمركة من خلال شهادات وأرقام متداولة رسميا.
ففيما يتعلق بالشهادات أكتفي بشهادة ميريلي س غرندل في مقاله: “مستعد أم لا؟ العالم النامي والعولمة” إذ يقول: “في نهاية القرن العشرين كانت التكاليف البشرية من الفقر المتفشي كبيرة .. أثرت الأمية في 850 مليون من البالغين، وأصيب بسوء التغذية 840 مليون نسمة منهم 16 مليون طفل- ونحو بليون نسمة لا يستطيعون تلبية حاجاتهم الاستهلاكية الأساسية، ونحو 340 مليون امرأة يتوقع موتها قبل أن تبلغ 40 سنة”.
ويقول: “خلال عقد التسعينات تلقت أندونيسيا الاستحسان والثناء على استراتيجية التنمية ذات القاعدة العريضة، والتي قلصت عدد الفقراء من ما يقارب 60% من عدد السكان سنة 1970 إلى نحو 15% سنة 1999. لكن تقرير التنمية لسنة 1999 قدر أن 20% من السكان، نحو 40 مليونا، قد أعيدوا إلى الفقر نتيجة الأزمة” يقصد الأزمة الأسيوية لسنة 1997.
ويستطرد: “تثبت معطيات أخرى مدى الفجوة بين الشمال والجنوب ففي أواخر التسعينات سيطر 20% من سكان العالم في الدول الغنية على 86% من مجمل الناتج المحلي… وتركز 68% من الاستثمار الأجنبي المباشر في أغنى 20% من الدول”.
رب معترض يقول إن هذا الواقع كان قائما قبل انطلاق العولمة المعاصرة، وذلك إلى حد ما صحيح، لكن الخطورة تكمن في أن العولمة المعاصرة/الأمركة زادت من حدته وكرسته وعمقته، وهذا ما جعل بعض الباحثين يتحدثون مثلا عن عولمة الفقر، وعولمة الآفات الاجتماعية…
الأمركة كرست وعمقت واقع الظلم بمختلف أصنافه، الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وهذه بعض الأرقام الشاهدة على ذلك:
ثلاثة أغنى أغنياء أمريكا ثروتهم أكثر من القارة الإفريقية، التي تضم حوالي 600 مليون نسمة.
30% من سكان العالم دخلهم اليومي يقل عن دولارين و20% دخلهم اليومي أقل من دولار واحد.
358 شخصا يملكون ما يملك 45% من سكان العالم.
40% من الحواسيب في ملك الولايات المتحدة الأمريكية.
80% من الهواتف الخلوية في العالم الغني.
في أمريكا 1% يملكون 40% من الثروة.
الأرباح المتوقعة من اتفاقيات منظمة التجارة العالمية قد تصل إلى 200 مليار دولار، معظمها يذهب إلى الشركات الغربية في مقدمتها الشركات الأمريكية، ولا يصل الدول العربية قاطبة سوى 1%.
يوجد في العالم حوالي 600 لغة، لكن 90% من برامج الأنترنت تبث بالإنجليزية.
بخصوص الشركات المتعددة الجنسية، فهي لا تساهم إلا بنسبة 7% في التشغيل العالمي، ولا تؤدي سوى 9% من مجموع الضرائب العالمية بينما تحتكر 80% من التجارة الدولية..
هذا غيض من فيض النتائج المهولة للأمركة، في الوقت الذي يؤكد دعاتها أنها تقوم على أربعة ركائز: الديمقراطية، التعددية، التنافسية، التحررية!!؟
ب- بأي مقياس نقيس نحن المسلمين العولمة ونتائجها؟
ما أشرنا إليه من شهادة وأرقام تؤكد المقياس المادي، أو بعبارة أخرى المقياس العدلي، في قياس نتائج العولمة، وهو مقياس ضروري، يبين هذه الهوة السحيقة بين الأغنياء والفقراء، ويكشف هذه اللامساواة في توزيع خيرات العالم وثرواته.
هذا المقياس المادي هو الذي يستعمله اليوم المنتدى الاجتماعي العالمي الذي يناهض العولمة والذي يتكون حاليا من 311 حركة اجتماعية، والذي عقد مؤتمره الرابع بمومبي بالهند في شهر أبريل 2004.
لكن نحن المسلمين أصحاب مشروع حضاري، وأصحاب رسالة ربانية، وقياسنا لنتائج الأمركة ينبغي أن يكون انطلاقا من ذلك المشروع ومن تلك الرسالة.
مشروعنا الحضاري يمدنا بمقياس حضاري خاص لقياس نتائج الأمركة، إنه مقياس يجمع في توازن بين المادة والروح، بين الدنيا والآخرة..
مقياسنا الحضاري إذن لا يلغي المقياس المادي العدلي، الذي يعتبر جزءا هاما من مشروعنا، يجمعنا مع مناهضي العولمة، في مختلف العالم. لكن يضيف إليه إضافة نوعية مؤكدة، قد تكون الأهم، فبالإضافة إلى البعد المادي العدلي هناك البعد الروحي الأخلاقي الذي من أبرز عناوينه أن وجود الإنسان في هذا العالم لا ينتهي بالموت، لأن هناك الآخرة، وهناك مصير فردي لكل إنسان بحسب نيته وأعماله، يقول الله تعالى: “يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه”.
انطلاقا من هذا المعيار الروحي الأخلاقي نسجل انتقادنا لتشييء الإنسان، واعتباره رأسمال ومنتجات بشرية، شأنه شأن السلعة والدواجن! ونسجل انتقادنا ورفضنا لعولمة الجهل بالله وعولمة جهل الإنسان على أخيه الإنسان! وعولمة الشذوذ الجنسي وعولمة المخدرات…
تشير بعض الأرقام إلى أن هناك نصف مليون موقع إلكتروني على الأنترنت مخصص للخلاعة، وأنه إلى حدود عام 2000 سجل 40 مليون مصاب بالإيدز!!.
بالإضافة إلى ذلك هناك عولمة ملحوظة للعنف والحروب، المسؤول الأول عنها الولايات المتحدة الأمريكية. عولمة للكراهية والصراع والأزمات والصدام خيبت ظن كلينتون الذي قال في يوم من الأيام: “إن العولمة هي التي تحقق السلام العالمي، فالذين يبرمون صفقات تجارية رابحة بينهم لا يدخلون أبدا في حرب”.
خاب ظن كلينتون وكانت أزمة المكسيك سنة 1994، والأزمة الأسيوية سنة 1997. خاب ظن كلينتون وصدق ظن “بولاني” الذي قال: “إن السماح لآلية السوق بأن تكون الموجه الوحيد لمعاشر البشر وطبيعتهم … سوف يسبب دمار المجتمع” ليس المقصود المجتمع المحلي فحسب ولكن المجتمع العالمي أيضا.
ج- أية مسايرة للعولمة؟
أعتقد أن المنطق السليم لا يقبل طرح سؤال: هل نساير العولمة أم لا نسايرها؟ لأن العولمة اليوم واقع ملموس، شئنا ذلك أم أبيناه، وبالتالي يبقى السؤال المقبول إلى حد كبير في ظل واقع الهيمنة، الذي يحاصر المسلمين، هو أية مسايرة للعولمة نختار؟
هنا أميز بين نوعين من المسايرة، مسايرة الممانع، ومسايرة الخاضع. هذا النوع الأخير يعني الخضوع الكامل للعولمة بإيجابياتها وسلبياتها، ببعدها التقني الوسائلي وببعدها المعياري الفلسفي، بخيرها وشرها، وهذا أمر مرفوض في اعتقادي.
أما مسايرة الممانع، فيمكن تلخيصها في كلمتين: استثمار ومقاومة. استثمار لإيجابيات العولمة ولخيرها، خاصة فيما يتعلق ببعدها التقني الوسائلي، ومقاومة لسلبياتها وشرها، خاصة فيما يرتبط ببعدها المعياري الفلسفي المهيمن حاليا. وهذا ما يرجحه الكثير من الباحثين المسلمين.
وأعتقد أن لهذا الموقف الأخير، موقف مسايرة الممانع، بعض الخطوات الضرورية يمكن تلخيصها فيما يلي:
1. التأكيد على الشرط التربوي، ففي غياب التربية، وفي غياب الحصانة الثقافية، توشك أن تتحول كل محاولة لاستثمار وسائل العولمة إلى استدراج للقبول بالبعد المعياري والفلسفي الميهمن، أي بعد الأمركة. وتحقيق هذا الشرط يتطلب إيمانا راسخا به، وإيمانا بماهية التربية التي ينشدها المشروع الإسلامي. كما يتطلب تنسيق مختلف الجهود، واستغلال كل الوسائل.
وهنا يمكن أن نسجل إقبال الكثير من أبناء المسلمين على التعامل مع الأنترنيت، وهذا شيء إيجابي. لكن الخطر يكمن في نوع هذا التعامل الذي يكون في الغالب، وللأسف الشديد، إقبالا على مواقع إلكترونية للخلاعة، أو خوض محادثات جنسية سخيفة..
2. التأكيد على أن المسلمين أصحاب رسالة للعالمين. يقول الله عز وجل: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” سورة الأنبياء الآية 107. ويقول تبارك وتعالى: “وما أرسلناك إلا كافة للناس” سورة سبأ الآية 28. ويقول سبحانه وتعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” سورة الحجرات الآية 13…
ورسالة الإسلام للعالم تعارض في المعنى والمبنى، العولمة الشرسة المهيمنة حاليا. من العناوين البارزة لرسالتنا: الرحمة، الرفق، التعارف، العدل بين الناس؛ كافة الناس، نصرة المستضعفين وإن كانوا غير مسلمين، الحرص على كرامة الإنسان لكونه إنسان قبل كل شيء، الارتفاع بالإنسان عن حضيض الدوابية، التي تلخص حياته في عبادة اللذة والجري وراءها إلى أن يدركه الموت…
من العناوين البارزة لرسالة الإسلام، بل من أول هذه العناوين، الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله والإيمان باليوم الآخر.
المسلم الذي لا يستحضر هذه الرسالة الربانية، التي كلف بحملها للعالمين، لا تصمد شخصيته كثيرا أمام رياح الأمركة الجارفة، ولا سبيل لاستحضار هذه الرسالة إلا بالتربية التي تحدثنا عنها آنفا.
3. التأكيد على المساهمة في صناعة عولمة مغايرة من حيث المركز والاتجاه، وهنا يمكن أن نتحدث عما أسماه بعض الباحثين بأسلمة العولمة أو عولمة الإسلام وأنسنة العولمة أو عولمة الإنسانية.
فكل مسلم من مكانه وحسب إمكاناته مطالب بأن يساهم من جهة أولى في إحداث عولمة ذات اتجاه إسلامي، تبشر بالإسلام وبرسالته للعالمين، ويمكن التنويه هنا ببعض ما يقوم به بعض العلماء وبعض الحركات الإسلامية من خلال مواقعهم الإلكترونية.
ومطالب من جهة ثانية أن يضم جهده إلى جهود ذوي المروءات في مختلف العالم، الذين يطالبون بالعدل والمساواة واحترام الإنسان وصيانة حقوقه، وذلك من خلال المساهمة في إحداث عولمة ذات اتجاه إنساني تعارض جملة وتفصيلا العولمة الشرسة المهيمنة حاليا.
4. الانخراط في الحركة الاجتماعية العالمية الرافضة للعولمة، إذ رغم ما يمكن أن نسجل على تلك الحركة من ملاحظات، من مثل سيطرة بعض الحركات الأوربية عليها، والاختلاف التصوري خاصة فيما يتعلق بالبديل، ورفض انتماء الحركات السياسية، مع العلم أن الحركات الفاعلة في العالم الثالث هي الحركات السياسية في الدرجة الأولى وليس حركات المجتمع المدني…
رغم هذه الملاحظات لا يمكن أن ننكر ما للمنتدى الاجتماعي العالمي الرافض للعولمة من أهمية، وقد اتضح ذلك بشكل ملحوظ في كل من سياتل سنة 1999، وبورتو اليغري عام 2001 من خلال ميثاق المبادئ، وفي مومبي بتاريخ 16 يناير 2004.
والانخراط في هذا المنتدى لا ينبغي أن يكون على مستوى العدد فقط، بل ينبغي أن يكون على مستوى المشروع أيضا، أي الدعوة إلى عالمية الإسلام.
5. الانخراط في الحركات التغييرية المحلية سواء على المستوى السياسي أو النقابي أو الثقافي أو الحقوقي أو الإعلامي.
فإذا كانت الحكومة الفرنسية مثلا تفرض على قنوات التلفزيون الفرنسي تخصيص 60% من برامجه للإنتاج الأوربي حتى لا يطغى الإنتاج الأمريكي. وإذا كانت نفس الحكومة قد أصدرت تعليمات بحجب المساعدات المالية عن جميع التظاهرات الفرنسية التي لا تجعل من اللغة الفرنسية لغة لأشغالها. وإذا كان جاك شيراك قد عارض قيام مطعم ماكدونالد في برج إيفيل دفاعا عن نمط العيش الفرنسي. إذا كان ذلك كذلك فإن الحكام والحكومات في الدول العربية والإسلامية، وللأسف الشديد، اختاروا موقف مسايرة الخاضع، الأمر الذي يفرض علينا معارضتهم.
لاشك أن كل هذه الخطوات تتطلب إرادة قوية وتنسيقا للجهود، وتعاونا وتظافرا، وتتطلب قبل هذا ومع هذا وبعد هذا، أن يبتدئ كل منا بنفسه، بتحديد مراده ومقصده من هذه الحياة، ومساءلة نفسه هل أعماله اليومية في مستوى ذلك المقصد والمراد؟ وإن تغيير العالم يبتدئ بتغييرنا لأنفسنا، مصداقا لقول الله تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
ولعل كلمة “محاولة” في عنوان المداخلة تشفع لي عند المعترضين والمخالفين. والله من وراء القصد.