1- العيد بين المطر والرحمة
في سنوات الجفاف القاسية، تعوّد الناس أن يُرجعوا كل أزمة إلى السماء. لكن حين يتجلى العيد في بلد كالمغرب وقد غابت عنه بهجته، وغلت أضحيته، وضيّق الخناق على الفقراء حتى باتوا يعرضون عن شعيرة طالما فرحوا بها، بل في سابقة مؤسفة يعلن عن منع ذبح الأضاحي من أجل الحفاظ على القطيع ورفع الحرج عن الفقير. فإن هذا القرار في عمقه يكشف هشاشة منظومة كاملة. فلا بد من أن نطرح السؤال الحقيقي: هل العيد ضحية الجفاف أم ضحية الجفاء؟
2- من الجفاف الطبيعي إلى الجفاء الإنساني
نعم، لم يعرف المغرب في السنوات الأخيرة غير مواسم قاحلة، شحّت فيها السماء، وذبلت فيها المراعي. لكن، لو كان الجفاف وحده هو السبب، لرأينا عدالة في الشدة، وتضامنًا في العجز، وإبداعًا في الخروج من الأزمة.
غير أن الذي حدث أن الجفاء – جفاء السياسات، وجفاء الأسواق، وجفاء القلوب – هو من عمّق أثر الجفاف، وزرع اليأس في النفوس. الجفاء الذي: يترك الكسّاب الصغير فريسة الوسطاء، ويرفع الأسعار تحت غطاء “العرض والطلب”، ويُصمت عن الجشع والطمع والمضاربات الموسمية.
لو كانت القلوب ممطرة، والنفوس عادلة، والأسواق راحمة، لكان بوسعنا أن نتجاوز الجفاف بالعدالة، لا بالمنع.
الذي أطفأ فرحة العيد ليس قلّة الماء، بل قلّة الوفاء؛ وفاء الدولة بمحاسبة من نهب ثروات “المخطط الأخضر”، ووفاء التجار بكبح المضاربة، ووفاء المجتمع بمعاني التكافل والإيثار، ووفاء الإعلام بقول الحقيقة لا تبرير القرارات.
3- العيد وسوق الجشع والمضاربات
ليس خفيًا أن بعض من يتحكمون في مسارات السوق قد يستثمرون لحظة الحاجة، يخزّنون العلف والأضاحي، ينتظرون اللحظة الحرجة ليرفعوا الأسعار دون وازع من دين أو وطن.
الجشع هنا لا يعني مجرد حب المال، بل يعني استغلال ضعف الناس لتحقيق مكسب سريع.
الطمع لا يعني أن يربح التاجر، بل أن يربح على حساب كرامة الفقير وفرحة العيد.
فإذا صار القطيع يُدار كما تُدار الأسهم، وإذا أصبح العيد موسما للمزايدة لا للزكاة، فاعلم أن المشكلة ليست في قلة المطر، بل في قلة الضمير.
المضاربة ليست فقط عملاً اقتصادياً، بل سلوكًا جافًا؛ يجفف الرحمة من السوق، ويجعل الأضحية بضاعة نخبوية، ويُقصي من العيد كل من لم يبلغ “سعر الدخول” إلى سوق الاحتكار.
فأين الدولة من هذه الفوضى؟
وأين صوت العدالة الاجتماعية؟
وأين الإعلام من سؤال: من الذي قتل فرحة العيد؟
4- فشل المخطط الأخضر: حين ضاعت الفرصة
لقد راهن المغرب على “المخطط الأخضر” لأكثر من عشر سنوات، رُصدت له ملايير الدراهم، وقُدّم على أنه الحل الهيكلي لتحقيق السيادة الغذائية والأمن المائي. لكن ما الذي حدث؟
استفادت منه لوبيات الزراعة التصديرية على حساب صغار الفلاحين، وركز على “الفلاحة الكبرى” بدل تقوية بنيات الصمود في البوادي القاحلة، وغابت عنه رؤية بيئية عادلة تراعي توزيع الماء والموارد.
فشل المخطط لم يكن بسبب الطبيعة، بل بسبب جفاء الساسة الذين غلّبوا الحسابات الربحية على مصلحة الأمة. وها نحن اليوم، حين نحتاج إلى قطيع العيد، وإلى علف المواشي، نجد أن البلاد دفعت ثمن سوء التدبير لا فقط سوء الطقس.
أعلن منع الأضحية رحمة بالمواطن، والله أرحم بعباده، لكن لم تُحاسب الجهات التي أوصلت الفلاح الصغير إلى الإفلاس، والمستهلك إلى العجز.
لم نر محاكمات للفاسدين في ملف الأمن الغذائي. لم نر مراجعة حقيقية لمخطط ضُخت فيه ملايير الدراهم، فصبت في جيوب لوبيات الزراعة الكبرى. ولم نر أي سياسة جدّية لحماية العيد كقيمة مجتمعية. تم “منع العيد” دون منع الجفاء، وتمت “الرحمة بالفقير” دون ردع الجشع والمضاربين.
لقد فشل “المخطط الأخضر”، وضاعت فرص السيادة الغذائية، وارتفعت كلفة الأعلاف، وانهار الكسابون، ثم جاء الجفاف ليكشف ما كان مستورًا: غياب الاستعداد، تفكك السياسة الفلاحية، واستمرار منظومة الريع الفلاحي دون مساءلة.
لو حوكم من تسبب في إفساد الأرض والقطيع، لما اضطررنا إلى منع الأضحية من باب “الحفاظ على ما تبقى”.
5- العيد امتحان للقيم
العيد موسم فرح، لكنه أيضًا موسم اختبار؛ هل نعيش بشعائر فارغة، أم بمعاني حيّة؟
لو لم يكن الجفاء والجشع والأنانية، لتغلبنا على الجفاف، برحمةٍ ومودةٍ بين أبناء الوطن.
لكان العيد فرصةً تحيا فيها معاني التضحية والعطاء، وتُحارَب فيها نوازع الأنانية والجشع.
لكان عيدنا فرحةً للغني والمقتدر، بتقرُّبه إلى الله، وعطائه، وأُضحيته التي يفرح أن يقتدي فيها بنبيّ الله ﷺ؛ فيُهدي منها ثلثًا، ويُتصدق ثلثًا، ويجعل لأهله ثلثًا.
ولكان عيد الفقير والمعسر عيد عطايا وتضامن، ووصل وصِلة رحم، وصِلة دم ودين ووطن.
عيدنا لا يقيمه المطر، بل تقيمه الرحمة، والعدالة، والنية. فمن لم يُطعِم فقيرًا، ولم يُخفِّض سعرًا، ولم يُراقب ضميرًا؛ فهو وإن ضحّى، لم يُحقِّق معاني العيد.
6- العيد ليس ذبيحة فقط… بل ذبيحة للأنانية
العيد، في جوهره، ليس مجرد شاة تُذبح، بل: قربان من الغني إلى الله من أجل الفقير، رسالة من القلوب الرحيمة إلى البطون الجائعة، موسم تتجدد فيه معاني الرحمة والعطاء.
لو سكنتنا أضداد الجفاء: كالإيثار، والتضامن، والتعفف، لكان عيدنا عيدًا بحق؛ يفرح المضحي بتقربه إلى الله، ويفرح الفقير بما رزقه الله من عطايا العيد، وتبتهج البيوت ببهجة المعنى، لا فقط بلحم الشاة.
لو فتحت مغالق قلوبنا وعشنا الإحسان في عيدنا وأيامنا لكان الحال غير الحال، والمآل غير المآل، ولتحقق فينا وعد ربنا، قال سبحانه وتعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ.
العيد ضحية الجفاء لا الجفاف؛ لأن الجفاف يقتل الزرع، لكن الجفاء يقتل الروح. الجفاف يقلل الأغنام، لكن الجفاء يقلل الإنسان.
المطر قد يعود، لكن ضميرًا فاسدًا لا يُنقذ وطنًا.
حين تبتعد القلوب عن الرحمة، والأسواق عن الضمير، والسياسات عن الرؤية، فلا تسأل عن المطر… بل اسأل عن البشر.
ولأن المشكل مشكل جفاء لا جفاف، فقد منع العيد، فما سلم القطيع ولا رُحم الفقير.