يتفق غالبية العقلاء المتدينين على أن الشخص الفاعل في المجتمع هو العضو المنضبط والحامل لهمّ الأمة، الذي يحقق السلوكيات الإيجابية في ذاته قبل أن يمشي بها في الناس، ويساهم ويبادر من أجل تحقيق ما يحتاجه من حوله ممن يعايشونه، فهو رمز التضحية والعامل الدائم للتطوير والتجديد، الداعم للآخرين، من يحقق الإسلام في نفسه أولا ويدعو الناس إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والقدوة السارية الحية.
قال الشاعر أبو مدين التلمساني:
تحيا بكُم كل أرض تنزلونَ بها
كأنَّكُم في بقاع الأرض أمطار
وتشتهي العين فيكُم منظراً حسنا
كأنَّكُم في عيون الناس أزهارُ
ونورُكُم يهتدي الساري لرؤيتهِ
كأنّكُم في ظلام الليل أقمارُ
لا أوحشَ اللَه ربعا من زيارتكُم
يا من لهم في الحشا والقلب تذكارُ
وهذا النظم اقتباس وترجمة لمعنى قوله تعالى: أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 122].
تحدثت الآية: أن من كان في كفر وضلالة وجهل (ميتًا)، والموت موت القلب وغفلته عن الحق، ثم تلقفته عناية الله بالهداية والعلم والإيمان (فأحييناه)؛ استيقظ من غفوه وفزع إلى ربه بالتوبة والإنابة، فأضحى لديه نور وبصيرة يرى بها الحق (وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) بأخلاقه وسلوكياته، لا يستوي هذا بحال من بقي في غيابات الجهالة والضلالة وليس له من أمر نفسه شيء ولا يعرف ما يريد.
ومعنى أن يعيش الإنسان مسلما أن يتجسد الإسلام فيه كما كان الصحابة والسلف الصالح وكما كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم في أخلاقه ومعاملاته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “كَانَ خُلُقُ نَبِيِّ اللَّه ﷺ الْقُرْآنَ” رواه مسلم في جملة حديث طويل.
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت لربه ساجدا قائما ويصبح مجاهدا معلما مرشدا لمن حوله، قرآن يمشي بين الناس على قدمين، فإذا أردنا معرفته عليه السلام نفتح المصحف ونقرأ الآيات القرآنية الكريمة التي تصف المؤمنين المتقين المتصدقين الصابرين الصائمين القائمين بالقسط… كلها أوصاف تجسدت في الذات المحمدية التي أسست لجهاد التعبئة والبناء، ثم انتقلت وتسربت إلى أرواح الصحابة بعدما تشربتها قلوبهم من بعده عليه السلام، ليكونوا نماذج في الأسوة والقدوة الحسنة بالتفافهم وانخراطهم جميعا في مشاريع التأسيس للدولة الإسلامية آنذاك. وما حصل يوم غزوة الخندق مثال حي وترجمة لروح التفاني والتضامن؛ حين اجتمع الكل حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يحفر بمعوله ويحمل التراب على كتفه الشريف، ومعه المهاجرون والأنصار في حيوية ونشاط رغم الضغوطات والظروف القاهرة، علّم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة قيمة العمل الجماعي، وحملهم هم الأمة، وأشركهم في التغيير والبناء، فتخلصوا من كل العاهات الفتنوية؛ من أنانية وشح وأثرة، فكانوا نجوما تركوا لمن خلفهم معالم في السلوك والتربية والجهاد.
قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كان غراما [الفرقان: 63-65].
فالفاعل في الأمة يحتاج بعد نور الهداية الربانية إلى نور التوفيق لينضاف التطبع إلى الطبع؛ فيكون لينا متحملا قابلا للتكيُّف مع مختلف ظروف الحياة، ثم مبدعا في إيجاد حلول لكل شائكة، مقتحما للعقبات.
هي مواصفات وسمات ومهارات أساسية ينبغي تواجدها وامتلاكها لمن أراد أن يحظى بروح الفاعلية في المجتمع، يقترب فيلامس معاناة الأمة ويفهم المطلوب منه، لأن العمل بلا علم تخبط وجنون، ولأن الفهم هو أول الخطوات، فإذا فهم تفانى واستمات في تحقيق الأهداف، وقد عرف أن حياته مزرعة لآخرته وأن عمره زمن حتما سينقضي فيستزيد من العطاء والبذل والتضحية طلبا لما عند الله.
وأعظم خدمة يقدمها للأمة هي الدلالة على الله وتعليم الناس أمور دينهم باليسير قبل العسير، في تدرج وتحبيب وتبشير، يلقن الناس كلمة التوحيد في معانيها العميقة حين تلامس الفطرة التي فطر الله الناس عليها، يعلمهم دينهم ويساعدهم على الاستعداد لليوم الآخر.
يقترن التبليغ عادة بالحركة والاحتكاك بين الأعضاء، فيقتضي استحضار المحبة، وهي الإدام الساري بين القلوب الجامع فيما بينها، والقوة الربانية الناظمة للأعضاء، إذ تربط بينها فيزيد التآلف وتنسجم الأرواح وتتجند الجوارح استجابة وخضوعا وطاعة بين المحبين.
ما أحوج الأمة إلى هذا الصنف من الناس، وما أسعدها بهم إن وجدوا.
وأختم بكلام للأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله يحذر فيه وينبه إلى ضرورة تصحيح النية وتجديدها قبل وأثناء وبعد كل عمل، ليكون خالصا لوجه الله تعالى وتقربا إليه عز وجل، قال: “فاتك تصحيح النية والصدق في الطلب والصواب في التوجه. وتلك هي المنزلة العظمى. لا يغنيك تألّق مصير الجماعة، ولا تمكين دين الله في الأرض، ولا فلاح من أفلح، ولا اختلاف من اختلف إن لم تتحقق لك أنت مع الله جل شأنه رابطة العبودية والمحبة والقربة لتكون من الذين إن تقربوا إليه شبرا تقرب إليهم باعا، وإن تقربوا إليه بالفرض والنفل صادقين صابرين منتظرين داعين راجين خائفين قربهم وكان سمعهم وبصرهم ويدهم ورجلهم. ويحك! إن لم تصحح القصد وتصدُقْ في الطلب قيل لك يوم يكلَّل هامُ الأمة بتاج الخلافة في الأرض: قم، فقد استوفيت حقك، ونلت ما كتب لك، وأُعْطيتَ سُؤْلك، لم تطلب الله يوما. ومن فاته الله فاته كل شيء. ويحك! طلبت منه النصر والجنة، ما طلبت قربه والنظر إلى وجهه! وما طلبت مقعد الصدق عنده مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين. ضاع عمرك!” 1.