إن ما ورثناه عن سلفنا الصالح من علوم وقواعد مؤصلة ثروة بالغة الأهمية. ما قننوه رضي الله عنهم من أسس في علم التعديل والتجريح وأصول الفقه وفروعه وأصول الدين وعلم السلوك باق رهن إشارتنا، باق في تجزئته وبعثرته، كنوزا مدفونة في الدفاتر، على أقفالها رموز يحلها فيستفيذ منها من معه مفتاح الفقه الجامع، الفقه الذي ينظر إلى العلم المؤثل من حيث موقعه من الحكم والظرف التاريخي والصراعات المذهبية وموقف أهل العلم رضي الله عنهم المحافظ المشفق على بيضة الأمة أن ترام، وعلى حماها أن يضام.
تراث مبعثر مكسر، شذراته اللماعة لا تزال صالحة للانتفاع في سياق تجدد في النيات والحركة والجهاد.
الفقه الجامع هو الفقه الذي يعم في نظرة واحدة الدعوة والدولة في علاقاتهما الأولى على عهد تأليف الجماعة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ثم تطور هذه العلاقات تطورا توسيعيا على عهد الخلافة الرشيدة، ثم في تطورها إلى الفساد والكساد على عهود الملك العاض فالجبري، ثم في الوضع الحالي وقد أصبح للعلمانية والذهنية العلمانية والنوايا العدوانية على الدين الصدارة في تفكير الحكام ومما رستهم، حتى غطت الدولة على الدعوة تماما، وألجأتها إلى منابر الوعظ المراقب الملجم المدجن أحيانا كثيرة، وإلى ركن «الأحوال الشخصية» بعيدا عن المجالات الحيوية المدنية والجنائية والاقتصادية والإدارية. ثم يعم الفقه الجامع في نظرة واحدة الدعوة والدولة وعلاقاتهما المطلوبة في مراحل البناء، كيف يستعيد رجال الدعوة مراكز القرار حتى يعود السلطان خاضعا للقرآن لا العكس.
ثروتنا الفقهية العلمية الموروثة صلة غالية انحدرت إلينا من تلك الأجيال، تصلنا بهم، وتحمل معها، في صياغتها وتجزئتها وصراعاتها المذهبية، آثار تاريخ حافل بالضغوط المتابدلة، كان لعمائنا العاملين أحسن الله إلينا وإليهم فضل الصمود أثناءها، صمودا حد من غلواء السلطان أطوارا.
تجزئة ذلك الفقه، مثل التجزئة السياسية المعاصرة في أقطار الفتنة، تمثل تحديا لنا أن نقوم نجمع بالاجتهاد شتات العلم، وبالجهاد شتات الأرض والمجتمع الإسلامي، متخطين كل التجزئات وكل الأفكار والاجتهادات والمواقف النسبية المظروفة بظروفها التاريخية. نعيد كل اجتهاد سابق إلى نصابه، نعرضه في حدود نسبيته على النموذج النبوي الكامل الذي طبق كلمة الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
بعض الناظرين في كتب السلف الصالح يتخذون إماما أو فقيها أو فارسا خاض معارك حامية في نصرة الدين معيارا مطلقا، يضيفون عليه من خيالهم القاصر كل صفات الكمال، ويساورون علومه بتلمذة جادة مخلصة كما يساور المسافر قمم الجبال الشماء، ثم يتخذون من فهمهم لفهم ذلك الفاهم سلاحا إرهابيا يقمعون به كل من رفع رأسه ليتلقى عن الله ورسوله الأمر الأول الذي جاء بلسان عربي مبين.
نكون منهاجيين إن نحن جعلنا… تتمة تنظير الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله على موقع ياسين نت.