بين يدي الموضوع
بات مطروحا في الساحة اليوم كثير من الآراء والأفكار والتقييمات والتنظيرات للحركات الإسلامية، ولاسيما بعد الربيع العربي واصطدام هذه الحركات، التي تجر وراءها كمّا لا يستهان به من الشعب، بواقع الاستبداد وتآمر الجلادين وأعوانهم، وحتى أعداء الاستبداد صاروا إخوانا له وشركاء معه عندما أصبح الواقع يطل بالحركات الإسلامية إلى الواجهة لتأخذ دورها في الشأن العام للبلاد والعباد.
الكل يدلو بدلوه ويصحح عثرات الحركات وفشلها أو أخطاءها، وكثيرا ما نرجع في التنظير للدراسات الميدانية، أو الأفكار من ذوي التجربة والخبرة ممن سلف، أو من التاريخ ودروسه الوعرة العميقة، أو من التجربة الواقعية، أو من التنظيرات الحزبية حتى ولو كانت أجنبية غربية. وكل هذا لا يفسد للود قضية، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها.
ولكننا نتساءل قبل أن نلجأ إلى الآخر أليس في كتاب ربنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه شيء من هذا التنظير والتوجيه؟
** ** ** **القرآن شفاء لما في الصدور ورحمة للمومنين، على تلاوته وحفظه ومدارسته والعكوف عليه مدار طب القلوب وإعدادها لتمتلئ إيمانا … كل مجالسنا وأحاديثنا تدور حول القرآن ومعانيه، حول وعده ووعيده، حول بشارته ونذارته، حول رحمة الله وحكمته، حول ذكر الله نفسه بالعزة، والعظمة، والألوهية، والربوبية، وذكر أحبابه بخصال الإيمان والمصير إلى الجنان، وذكر أعداءه بخصال الكفر، والنفاق، والمصير إلى النار، حول قصص من سبقنا لنتعظ، حول أحكام الله لنتقيد بها) 1 .
ثم هذه السيرة النبوية العطرة خير من جسدت القرآن الكريم حيا يمشي على الأرض من خلال شخص النبي صلى الله عليه وسلم.
أفلا ننظر فيها لنبني لحركاتنا الإسلامية فقهاً أصيلا ومبادئ أساسية متينة مدعومة بنصوص قرآنية وتجربة نبوية واقعية من خلال سيرته العطرة.
المنهاج النبوي في التحرك الجهادي بين أيدينا نقرأه في السيرة العطرة. وعلينا اتباعه في الخط الرئيسي، والاجتهاد في جزئيات الحركة، لإنزالها على أحكام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) 2 .
ولم يخلُ القرآن الكريم من هذا الشأن أبدا، كيف لا وهو كتاب الله، به يوجه العباد ويرقيهم وينقيهم ويزكيهم وينظم لهم دنياهم ليسعدوا في أخراهم، يوجههم كيف يعبدون ربهم، وكيف يتصافون مع إخوانهم، وكيف يتعايشون مع غيرهم، وكيف ينظمون حياتهم الاجتماعية والأخلاقية والعلمية والاقتصادية وظروف الحرب والسلم وما إلى ذلك.
واستعمل القرآن الكريم خطابه وحديثه وقصصه وأمره ونهيه وأمثلته لهذا الغرض. فلا تخلُ آيات منه من توجيه الفرد أو الجماعة للطريق الصحيح، ولا تخلُ قصة من عبر ودروس تحثنا على الاقتداء بالإيجابي أو النفور والابتعاد عن السلبي فيها.
لذا كثيرا ما نرى الله تعالى يفصل لنا أحوال بني إسرائيل وعلاقتهم مع نبيهم وكتبهم وشرائعهم وبعضهم البعض، وكيفية إقبالهم في الأمر والنهي؛ كل ذلك يحمل طابعا الاعتبار والاذكار لنبني فوق تلك الدروس المستفادة أسسا لتحركنا ونهضتنا وقيامنا بأمر أمتنا ودعوتنا.
وفي الجانب الآخر نرى الله تعالى كيف يفصل أحوال المنافقين تفصيلا مطولا حتى تعرض لهم في جميع شؤونهم؛ ففضح عبادتهم وارتباطهم بالجماعة والمصحوب صلى الله عليه وسلم، وذكر شأنهم في الحرب والجهاد، وسعيهم للإفساد، وتباطؤهم للخروج والقيام، كل هذا يترك لنا مجالا واسعا لتحديد منطلقات متينة للحركات الإسلامية لتنظيم شأنها الداخلي والخارجي.
أليس من حقنا أن نراجع أنفسنا بحكمة وروية ونرجع ببساطة إلى بساط الوحي نستقي منه الدواء والشفاء.
أم ترى أن القرآن الكريم بحكم أسبقيته وتأخر ظهور هاته الحركات الإسلامية لا نجد فيه ما نقيم به هشاشتنا وضعفنا أستغفر الله وقد وجدتني أستغرق النظر في آيات من كتاب الله يتراءى من خلالها نور الطريق وقوة السير إن نحن جعلناها نهجا وطريقا.
** ** ** **
رحم الله الأستاذ عبد السلام ياسين كان خير من التزم بهذا المنهج العظيم، وخير من أطر جماعته بنصوص القرآن والسنة. يقول رحمه الله تعالى:
المنهاج النبوي التربوي التعليمي جاء من نفس المصدر الذي جاء منه جسم الإنسان وعقله ونفسه وكيانه، بما صلح به الجيل القرآني النبوي الأول تصلح به الأجيال إلى يوم القيامة إن كانت التربية والتعليم قرآنيّيْن نبويَّيْن) 3 .
يمثل القرآن الكريم المصدر الأول في نظرية المنهاج النبوي حيث اعتمد عليه الأستاذ ياسين رحمه الله تعالى باعتباره مصدر الشريعة الإسلامية التي ترشد الناس إلى منهجهم في الدين والدنيا).
نظرية المنهاج النبوي نظرية تربوية حياتية، تستمد مادتها من القرآن الكريم والسنة النبوية، وتُجلي الواقع الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام) 4 .
ماذا نعني بالفقه الحركي؟
لكل مسألة فقهها وأسسها التي تنبني عليها، وثوابتها التي يجب ألا تزيغ عنها، والفقه فيه أصول وفروع، وقد تتولد عن الفروع فروع، وهنا يكثر الخلاف وتتعدد وجهات النظر بحسب الفهم أو الزمان أو المكان أو الظروف والحيثيات.
ولكن في الأصول والثوابت لا أشك أنه إن كان فيها خلاف فإنه سيفضي لا محالة بكثير من الحركات الإسلامية إلى الضياع والزوال والغياب عن الواقع، او الذوبان السريع أو البطيء في الواقع الحياتي الاجتماعي، أو السياسي الحزبي، أو السلطاني الملكي…
فكم رأينا وقرأنا في ملفات تاريخ الحركات الإسلامية عن حركات ما صارت حركات، وأخرى كيف صارت أحزابا، وأخرى كيف انقلبت رأسا على عقب فتحولت من حركة إسلامية إلى بؤر لذوي الأهواء والأطماع، وتفشت فيها العلمنة وحب المغنمة، وأخرى كيف نشأت من الوهلة الأولى عقيمة لا حظ لها في الولادة والإنجاب.
كتب كثيرون جدا في تأطير وتوجيه الحركات الإسلامية وما زالت الكتابات تكتب والتاريخ يسجل والواقع يشهد.
يكتب السيد فتحي يكن رحمه الله تعالى بالاستفاضة عن الحركة الإسلامية، وفي كتابه القيم: المتساقطون على طريق الدعوة كيف… ولماذا؟). يرجع الأسباب إلى ثلاثة:
أولا: أسبابا تتعلق بالحركة. وذكر فيها سبع عوامل أساسية.
ثانيا: أسبابا تتعلق بالفرد. وذكر فيها سبع دوافع كذلك.
ثالثا: أسبابا خارجية ضاغطة. وذكر فيها خمس عوامل.
وعند مراجعتي لها وجدت أن القرآن قد حذر منها أشد التحذير ونوع من صور التحذير فيها تارة بالقصة والمثال أو بالخطاب المباشر. أفلا يدعونا هذا إلى استنباط قواعد قرآنية مؤطرة في الموضوع.
نعم عندنا مزالق كالخنادق وآفات متلفة وقعت فيها الحركات الإسلامية وتقع فيها، وقد حذر منها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فعلا وقولا وتقريرا.
لما نقول الحركة الإسلامية فقد ينطبق الأمر عليها ككل، أو على قيادتها، أو أنصارها، أو منهجها، أو أهدافها. فتارة يكون الخلل في الجسم ككل، أو في المنهج والطريق، أو في الهدف المرسوم، أو في القيادة وربانيتها، أو في الأنصار وإخلاصهم.
إن لم يكن للحركة الإسلامية فقه جامع منبثق من معين الوحيين العظيمين ومن تجربة نبوية شريفة من خلال سيرته العطرة، واجتهاد أصحابه، ثم نضيف اجتهادنا إليهم وفق ما تقتضيه مرحلتنا وفقه واقعنا ومقاصد شريعتنا السمحة، فلا غرو عندئذ إن رأينا داعش وأمثالها يتوالدون ويتكاثرون ويمضون صما بكما عميا باسم الإسلام والعمل الإسلامي.
وأظن أنه آن الأوان لهاته الحركات أن ترى أخطاءها وتبصر عيوبها وتراجع مشروعها وأهدافها وتعيد بناء صفها الداخلي وفق ما علمنا الله تعالى في كتابه من كيفية مواجهة الباطل ولمّ الصف والسعي في الأرض للإصلاح.
نعني بالفقه توحيد المنطلقات وأسس البناء والتصور المنهاجي النبوي الجامع، وبعد ذلك قد يكون للحركة بُعد تعليمي تكويني، أو بُعد تربوي، أو بُعد اجتماعي خيري، أو بعد دعوي إصلاحي، فكل يعمل على واجهة من واجهات الجهاد الكبير، لنلتحم في الآخر على هدف إعلاء كلمة الله تعالى والدلالة عليه سبحانه وإقامة شرعه وهديه وبث رحمته في الخلق والخليقة.
في القرآن الكريم
1- الصحبة والجماعة
تكلم القرآن الكريم بتفصيل وبغير ما أسلوب، فتارة بالنص الصريح وتارة بالإشارة، وتارة بضرب المثل أو سرد قصة عن ضرورة الصحبة والجماعة في بناء الفرد والأمة، وهناك آيات كثيرة حبلى بالمعاني والعبر تفصل علاقة الجماعة والمصحوب والأنصار مع الجماعة ومصحوبهم وهنا أفضل كلمة المصحوب على الأمير لأن الأمير يقتضي الترفع والمصحوب يوحي بالدفء والرحمة والألفة ونترك الآيات لدراسة مفصلة أخرى.
2- الذكر
وهو عامل مهم في إيقاظ القلوب، والقرآن الكريم مدح الذاكرين ورغب في مجالس الذكر وعظم شأنها وبيّن دورها الكبير في النصر والثبات وقوة العزيمة. في حين حذر من الغفلة التي تتلوها القسوة والتفرق والتمزق والتقاعس عن النهوض بالواجب. أفلا تراه يفضح المنافقين وتخلفهم عن الحضور والجهاد؟
3- الصدق
اتقوا الله وكونوا مع الصادقين هذا جزء من الصدق الذي حث عليه القرآن وهو الكينونة معهم، وفي القرآن الكريم الصدق في القول والعمل والنية فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم وحكى القرآن عن كثيرين خابوا وخاب مسعاهم لعدم صدقهم مع الله وإخوانهم.
4- البذل
أي بذل المال والنفس والجهد والعلم والوقت وكل ما يملك الداعي إلى الله تعالى. في القرآن الكريم تجد فقها جامعا لم يذكر في كتاب قط عن فقه الإنفاق والبذل. ما عليك إلا أن تجمع الآيات لبعضها لترى كيف فصل الله الإنفاق قبل الفتح وبعده وفي الشدة والعسر وبذل المال في وقته والنفس في وقتها وأيا منهما مقدم على الآخر وهكذا.
5- العلم
وهل يتم بنيان وصرح بدون علم.
العلم فهم العقل الخاضع لجلال الله، ونور في قلب من أيده بالإرادة الجهادية) 5 .
وما أكثر ما ذكر الله في كتابه من آيات العلم كأنها قواعد تأصيلية للعمل الدعوي، فتارة ترفع العالم الرباني، وتارة تحثه أن يكون ربانيا، وتارة تضعنا أمام أمثلة سيئة لعلماء باعوا الدنيا بالدين، وتارة تستنهض هممنا للعلم والتعلم، وتارة تحثنا على التخصص والتعمق في العلم، وبين هذا وذاك تعرف لنا ماهية العلم الحقيقي، وكل ذلك نستفيد منه لبناء حاضرنا ومستقبلنا.
6- العمل
على أي أساس نعمل؟ وبأي نية؟ وممن نرتجي الجزاء والثمن؟ في القرآن الكريم نجد من هذا الشيء الكثير لنؤسس به عملنا وفقهنا.
7- السمت الحسن
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون 6 .
وقوله تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد 7 .
طهارة الباطن والظاهر، القلب والعقل والجوارح، ومن تم يعمم هذا الخلق ليشمل الحياة العامة وهذا هو المقصد الكبير للقرآن ودعوة عريضة دائم النداء بها فهل من مذكر.
8- التؤدة
هي الخصلة الخلقية السياسية الاستراتيجية التي تفصل بين العمل المرتجل الانفعالي وبين العمل المخطط المحكم: خصلة امتلاك النفس والصبر على طول الطريق ومشقة العمل. وبالتريث تنضج الثمار) 8 .
ومن هذا في القرآن والسنة وواقع السيرة العطرة الكم الكثير والدروس العظيمة والعبر الجليلة لاسيما إذا استنطقنا الآيات ففيها أسرارا وأذواقا وحكما عطرة ولا إله إلا الله.
9- الاقتصاد
في مفهومه العام وهو التوسط لا يقبل المغالاة ولا حرق المراحل. وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الناطقة باسم القرآن والمترجمة له والصورة العملية له خير دليل وهاد وراشد إلى ذلك.
10- الجهاد
وما خلت سورة في القرآن الكريم إلا فيها لمحة إرشادية لهذا المبدإ العظيم ولو رجع المفتونون في دينهم وفكرهم إلى القرآن والسنة لعلموا ما يعنيه وتعنيه كلمة الجهاد وفق ما عرفه وقصده وطمح إلى تحقيقه.
وأخيرا أقول أن ما هذا إلا بادرة تحتاج لمراجعة ومناقشة. نأخذ الأصل وهو القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم فلا مندوحة لنا عنهما، ولا قوام للحركات الإسلامية دونهما. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
[2] عبد السلام ياسين، المنهاج، ص، 28.\
[3] محنة العقل المسلم، ص: 34.\
[4] توظيف النص القرآني في نظرية المنهاج النبوي للأستاذ عبد السلام ياسين، د. المعتز بالله السعيد طه، كتاب مركزية القرآن الكريم في نظرية المنهاج النبوي..، ج 1، ص: 490.\
[5] المنهاج النبوي، ص: 201.\
[6] المطففين، 13.\
[7] الأعراف، 30.\
[8] عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، ص: 83.\