الفنّ في غزّة

Cover Image for الفنّ في غزّة
نشر بتاريخ

حينما تبلغ المعاناة مداها، حينما تحترق القلوب بلظاها، حينما تسرف الوحوش في أذاها، حينما يسقط الشهيد ولا تجد جثته الطاهرة من يواريها، وتبكي أمّه فلا أحد يواسيها. حينما يسكت الجار، ويخذل الأخ، ويتكالب العدو، ويطبق صمت الخيانة… آنذاك يصيح الفنّ بأعلى صوته؛ فإذا أبيات الشعر تسيل صبابة، وعندليب الغناء يبكي حنينا ومحبّة، وحروف الأدب تتلاحم ألما، وريشة الرسم تهتِنُ دما، وخشبة المسرح تكبر وتكبر وتكبر لتشمل فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن… وما تبقى من العالم جمهور متفرّج.

وتسمع أنين الكلمات، وتبكيك حمولتها ويقصم قلبك وظهرك صدقها. ففي كلّ لحظة، هناك عشرات الشهداء. ومع تلك اللحظة هناك عشرات الآهات التي تُؤلم وتُلهم الفنّان وتحرّك دواخله فيحوّلها إلى إبداعات ما لها مثيل في الجمال والصدق والتأثير. فتسمع أنشودة «ما عليش… كلّو فدا فلسطين»، وأغنية «روح الروح»، و «أنا الشهيد»، و«وين رايح»، و«سلام لغزة»، وتقرأ رواية «الشوك والقرنفل»، وتسمع قصيدة «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، وتشاهد فيلم “عماد عقل.. أسطورة المقاومة” ومسلسل “بوابة السماء”، و”الفدائي”، و”قبضة الأحرار”، وترى رسومات غاية في الروعة فنّا، وآية في نقل المشاهد والمشاعر حسّا، وكلّ هذه الأناشيد والأغاني والروايات والرسومات والمسلسلات نابعة من أعماق المعاناة، متدفّقة من أحضان المكابدة والمقاساة، توثّق لمجازر الاحتلال وهمجيّته، وتصوّر هول الدمار النفسي الذي؛ لولا حبّ الله تعالى والإيمان به، وحبّ المصطفى عليه الصلاة والسلام واتباعه سنّته، وعشق الأرض، لأتى على الأخضر واليابس في أفئدة الصغار والكبار من أهل غزّة الأبية.

إنّه فنّ مقدّس من قبيل أبيات عبد الله بن رواحة رضي الله عنه التي كان يرتجز بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو ينقل من تراب الخندق مع أصحابه يوم الأحزاب يَمُدُّ صَوْتَهُ بآخِرِهَا: «اللَّهُمَّ لَوْلَا أنْتَ ما اهْتَدَيْنَا … ولَا تَصَدَّقْنَا ولَا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا … وثَبِّتِ الأقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا إنَّ الأُلَى قدْ بَغَوْا عَلَيْنَا … وإنْ أرَادُوا فِتْنَةً أبيْنَا» 1.

إنّه الفنّ في أبهى صوره، وأجمل حلله، وأسمى معانيه. إنّه الفنّ الذي يؤدّي رسالته على أكمل وجه وأتمّ شكل.

إنّ الفنّ في غزّة لم يعد مجرّد موهبة يُتسلى بها، بل أصبح سلاحا قويّا ينقل به الفنّان الأحداث، ويحضّ به القاعدين، ويُلهب به حماس المجاهدين، ويشدّ به أزر المرابطين، سيرا على أثر ابن رواحة رضي الله عنه الذي أنشد أبياته الخالدة وهو يلاقي في غزوة مؤتة جيش بيزنطة المتكوّن من مائتي ألف مقاتل وليس معه إلاّ ثلاثة آلاف مجاهد:

أقسمت يا نفس لتنزلنه

لتنزلن أو لتكرهنه     

إن أجلب الناس وشدوا الرنه

مالي أراك تكرهين الجنه     

قد طال ما قد كنت مطمئنه

هل أنت إلا نطفة في شنه

 

يا نفس إلا تقتلي تموتي

هذا حمام الموت قد صليت

وما تمنيت فقد أعطيت

إن تفعلي فعلهما هديت 2

بل إن الفنّان -شاعرا كان أو مغنّيا أو كاتبا أو رسّاما أو ممثلا- أصبح لزاما عليه أن يبذل جهده ليلا ونهارا مستخدما فنّه في التعريف بالقضية، ومواساةِ من فقدوا أحبّاءهم، وهجوِ العدو وحلفائه وعبيده، وفضحهم أمام العالم، فذاك جهاد من الجهاد. فقد قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لحسان بن ثابت رضي الله عنه: «اهْجُهُمْ -أوْ: هَاجِهِمْ- وجِبْرِيلُ معكَ» 3.

فإن كان الفنّان في غزّة ملزما بالجهاد بفنّه – رغم ظروف الحرب والحصار والدمار – فمن العار على فنّان يعيش في رفاهية واستقرار ألاّ يبالي بإخوانه وألاّ يستخدم ما وهبه الله تعالى في نصرة المظلومين والتعريف بقضية الأقصى وفلسطين.

ومن فتح له باب من أبواب الجهاد فلينتهزه…

و«مَن ماتَ ولم يغزُ ولم يحدِّث نَفسَهُ بالغَزوِ ماتَ علَى شُعبةٍ من نفاقٍ» 4.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.


[1] أخرجه البخاري (4106)، ومسلم  (1803) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
[2] أبيات لابن رواحة رضي الله عنه في غزوة مؤته، وقوله: “إن تفعلي فعلهما” من سبقه من القادة الذين استشهدوا زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري (4123)، ومسلم (2486) عن البراء بن عازب رضي الله عنه
[4] أخرجه أبو داود (2502) واللفظ له، وأخرجه مسلم (1910) باختلاف يسير عن ابي هريرة رضي الله عنه.