في قمة من قمم الجامعة العربية، وبعد إعدام صدام حذر القذافي أقرانه من نهاية مماثلة، فقال بصيغة الإمكان: (يمكن الدور جاي عليكم كلكم) فضحك الحضور ضحك استهزاء واستنكار واستبعاد باعتبار أن الأمر مستحيلا، فالطاغي المجتاح للغير المعدم استثناء، ثم أردف قائلا: (ولكن الذين خارج القاعة يسمعون أكثر ممن يسمع من داخل القاعة) فلا شك سيقومون يوما..
صدق حقا ولكنه أخطأ إذ تكلم بصيغة المخاطب، واعتقد أنه في مأمن من خاتمة دموية، فهو ملك ملوك إفريقيا وهو زعيم القادة العرب وهو قائد الثورة وهو… من البادية ابن الخيمة لا يملك إلا بندقيته التي قال إنه سيبقى قابضا على زنادها إلى آخر طلقة يطلقها في وجه الجرذان الذين سيتعقبهم دارا دار بيتا بيتا وزنقة زنقة، فإذا به ينتهي به الأمر في حفرة بعدها حفرة الأبد المجهولة ، إنه حكم الله العادل، قضى عليه بالموت وأوكل السلطة التنفيذية لمن ذاق شره وعاش تحت وطأة عقده النفسية، وأمراضه العقلية، فزف خبر موته زفا وقرعت الطبول وعلت الزغاريد ورفعت أصوات المآذن حامدة الله مكبرة مهللة مسبحة كأنه يوم عيد، يا له من استثناء حقا ،فرح بموت. ولن يكون غيره استثناء.
هكذا أخذ القذافي الرقم 4 في سلسلة سقوط رموز التأله والاستبداد ممثلا بذلك نموذجا آخر بعد من أًعدم، ومن هرب بجلده، ومن هو قابع في سجنه ينتظر مصيره، ولن يكون آخر نموذج طبعا بل أعمدة الظلم ستتوالى بالسقوط الواحدة بعد الأخرى، فالملك لله والكبرياء لله والعزة لله وحده لا شريك له، ومن نازع الله في ملكه وكبريائه وعزته، ومن استبشر باستئساده، ومن ظن أنه عبد الله الصالح المصلح وهو الفاسد المفسد، كل أولئك إلى زوال ولو بعد حين، لأن الأرض لله يورثها عباده الصالحين صدقا قولا وفعلا مهما طال عمر اضطهادهم والبطش بهم ووضع الحواجز الفولاذية بينهم وبين الأمة، إذ أن أخوف ما يخاف حكام الجور التفاف الأمة حول رجال الإصلاح، لهذا جرت عادتهم على نهج مختلف السبل التي تؤدي إلى ذلك، ويحكي لنا تاريخ المسلمين كيف حارب هشام بن عبد الملك أنصار زيد بن علي حيث بعث بكتابه إلى عامله بالكوفة قائلا: ( فادع إليك أشراف أهل مصر، وأعدهم العقوبة في الأبشار، واستصفاء الأموال. فإن من له عقد أو عهد منهم سيبطئ عن زيد، ولا يخف معه إلا الرعاع وأهل السواد ومن تنهضه الحاجة فبادرهم بالوعيد، واعضضهم بسوطك، وجرد فيهم سيفك، وأخف الأشراف والأوساط قبل السفلة) تاريخ الطبري ج8ص226 فالأشراف الأغنياء يخافون على أموالهم وأملاكهم ومراكزهم بمجرد التهديد، والمستضعفون الذين ليس لهم ما يخافون عليه سوى أنفسهم لهم العصي الكهربائية المستوردة ولهم البنادق والدبابات، هكذا يستعملون أسلوب فرق تسد فيقسمون الأمة إلى طبقات وطوائف وشمال وجنوب وشرق وغرب ليحكموا سيطرتهم على البلاد والعباد.
لكن مضى عهد نامت فيه الأمة، واستقالت من وظيفتها، وصمتت عن حقوقها، ورضيت بالفتات واشتغلت بخواص أمورها، وغضت الطرف عن الأمور العامة وآن لها اليوم أن تهتم بمصيرها
وأن تأخذ على يد الطغاة الجبابرة الجاثمين على الصدور لتملأ الأرض عدلا بعد أن ملأت جورا وطغيانا.