لا يختلف اثنان من أمة الإسلام على مكانة القرآن من الدين ومن إيمان العبد المؤمن بربه، فهو الكتاب المقدس المعجز المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، المتعبّد بتلاوته، وله المكانة السامية في القلوب تعظيما وإيمانا به، منذ أن نزل وحيا على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه كيف استطاع القرآن أن يخرج ثلة من الناس في صحراء شاسعة نائية عن كل حضارة، لا يكاد يسمع لهم صيت، إلى أمة قائمة سادت الأمم بكل الخصائص الأخلاقية والعلمية والقيمية والإنسانية؟ وكيف لا نجد اليوم للقرآن أثرا في نهضة الأمة رغم كينونته كتابا مقدسا في أعماقها؟
لا يخفى على ذي لب عمق المشكل وظواهره في علاقة الأمة بكتابها المقدس القرآن الكريم، فإذا كان القرآن عند سلف الأمة منهج حياة، ولد على ضفافه عقل بشري متنور بنور الله، بنى صروحا شامخة من التشريعات والأصول والمقاصد، وكما بنى العقول، بنى الذوق السليم والحس الإنساني المرهف، فأعطى المجتمعات الإسلامية صورة فريدة على مستوى التاريخ البشري الحضاري وفي كل المجالات التي تحكم ظواهر الوجود والعيش، سواء كانت هذه المجالات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو علمية… فإنه اليوم أصبح كتاب تبرك فوق الرفوف، وإن بقيت مكانته في القلوب، لكنها لا تتجاوزها ليكون منهج حياة، فأصبحت الأمة ترى في القرآن مصدر حسنات تدخرها للآخرة بكثرة تلاوته وترداد حروفه ليس إلا، فكل حرف بحسنة والحسنة بعشر أمثالها. فكيف نجعل من القرآن شرارة حياة لأمتنا، وأس بناء متكامل صامد في وجه الطغيان، ومعول هدم لكل أمراضها المادية والمعنوية بتوجيهاته ونورانيته وأحكامه؟ فهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حيث جمع كل احتياجات الإنسان المادية والمعنوية، التي تنير عبوره الدنيوي إلى دار الخلد في الآخرة مستقر رحمة عند رب العالمين، يقول الحق سبحانه وتعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ (النحل: 89).
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “به – أي بالقرآن – يُبرهن على الهدى والضلالة، على الصلاح والفساد، على إصابة العقل وخطئه، على سلامة الفهم وعلته” 1. ويضيف رحمه الله: “ومعنى أن يكون القرآن برهانا أن نحكم بكلام الله الأزلي على عقل البشر المخلوق الخاضع لتطورات الزمان والمكان، معناه أن يجلس العقل مجلس التلميذ يستهدي بالوحي ويستنير به” 2.
واستهداء العقل البشري بالقرآن يعطيه مساحة واسعة وأفقا رحيبا من كل المعاني والسبل الموصلة إلى التفاعل مع النفس والمحيط، تفاعلا إيجابيا بنّاءً يخلق ديناميكية خاصة عند الإنسان وبالتالي داخل المجتمع، فدعوة القرآن للنظر إلى النفس والكون، والتدبر والتفكر والاعتبار، والانكباب على العلم، والمبادرة إلى الفعل، والالتزام القوي، من خلال آيات كثيرة منها قول الحق سبحانه وتعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (ص: 29)، وقوله سبحانه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (الزمر: 9)، وغيرها كثير ترسي قواعد وركائز أساسية لبناء حضاري متين، قد نجمل هذه الركائز في أهمها: الإنسان ومهمّته وأدوات البناء.
الإنسان فاعل أساس
عند تصفح كتاب الله تعالى تفهم وبدون عناء أن المخاطب الأول في القرآن هو الإنسان، حيث خصّه الله تعالى بقدر عال من التكريم والتعظيم، وجعله محور خطابه في كل تفاصيله، فهو المستخلف المأمور بعمارة الأرض؛ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (البقرة: 30)، وظيفة حضارية أسّس لها القرآن بالتوجيه والتربية لهذا الإنسان، وبيان دروب البناء الفاعل الذي ينبغي أن يلتزم بمنهج الله، فأمر وحذّر وعلّم، وأخبر أنّ السمة الحضارية في هذا الاستخلاف وهذا التفويض هي حسن استخدامه فيما ينفع به نفسه والناس، وأن الاستخلاف هو للتعمير والبناء وليس للإفساد، وأعلن عن أهمّ العوامل أو المداخل التي تجعل من الإنسان عامل بناء في حضارة إنسانية راقية وهي تأكيده على وحدة النوع الإنساني مهما اختلفت أعراقه ومواطنه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: 13)، فكان التمييز بالتقوى لا بالمال ولا بالسلطان ولا بالنسب، بل جعل ميزان التفاضل بالتقوى الذي يبعد الإنسان عن الظلم والطغيان والإفساد في الأرض، ومن هنا يتضح أن العنصر الثاني في بناء الحضارات هو الجانب الأخلاقي المبني على التقوى والاستقامة.
الأخلاق لحمة الحضارة
ممّا يبرز مكانة الأخلاق في البناء الحضاري والعمران الأخوي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” 3 وكأنما اختزل صلى الله عليه وسلم بعثته في إتمام هذه المكارم، والتي تعطي كل مجتمع سمته البارزة من عدل وصدق وأمانة وغيرها من الصفات، التي إذا انتشرت في أيّ مجتمع جعلته محل استقرار ونماء وإبداع وأخوّة. ومن هنا كان تركيز القرآن على تزكية الأنفس وتطهيرها من الرذائل، أمر أساس لبناء حضارة متوازنة أخويّة عادلة.
والحديث عن العمران الأخوي لا ينفك بتاتا عن الجانب الأخلاقي للإنسان، فغاية الغايات من الاستخلاف عبادة الله في الأرض، ولا تتحقق هذه الغاية إلا أن يعيش الإنسان كريما مطمئنا لا تلهيه مطالب العيش والفطرة عن الهدف الأسمى من وجوده.
ونختم بقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “المواطنة القلبية الإيمانية هي أم الخصائص في العمران الأخوي… التي ينقلب بها موقف المسلم من الملكية الأنانية لمتاع الدنيا… وينسلخ من عادات المنكر ومن الشرك بالآلهة التي يعبدها الإنسان المشرك والغافل عن الله: الشح والمصلحة الخاصة والربح واللذة والمال والجاه” 4. هي آفات تنسف أركان كل بناء حضاري لتنتفي كل معالم العمران الأخوي، ولا سبيل لتجاوزها إلا بالالتزام بالخط القرآني في التربية وتزكية الأنفس.
وقد نطرح سؤالا أخيرا عن البيئة والمحيط وما أثّل له الإسلام من قواعد تمكن الإنسان من الحركة والبناء بما أمر الله، وهل كان لها حظ في كتاب الله ذكرا وتوجيها؟
الإنسان وبيئة البناء
خلق الله الكون وكل ما فيه من مخلوقات وأنزله المنزلة السهلة من الإنسان حتى يتمكن هذا الأخير من الاستفادة منها وتسخيرها لأداء الأمانة المكلف بها، وقد تحدث القرآن كثيرا عن الأرض والجبال والسموات والبحار والأنعام، مبيّنا فوائدها وضرورتها، ومنبّها الإنسان ليعمل من خلالها بالعمل الصالح الذي يعود على البشرية بالخير، فالقرآن الكريم صاغ مبادئ العمران الأخوي وأسّس الحضارة على مبدأي الخيرية والصلاح الشامل، الذي يضم كل نواحي الحياة، وجميع أصناف التعامل مع كل المخلوقات سواء كانت إنسانا أو حيوانا أو نباتا أو جمادا، لأن الحضارة الحقيقية والعمران الحقيقي الذي أمِر به المؤمن في الأرض هو العمران الذي تتناغم فيه كل المخلوقات بأمر الله وتسبيحه وطاعته، ولا يختل فيها الميزان بطغيان أو فساد، ومن هنا عاب القرآن على الذين يسعون في الأرض فسادا، وأكد الخطاب القرآني في كثير من الآيات أنّ الله لا يحبّ المفسدين، يقول الحق سبحانه وتعالى: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا (الأعراف: 56)، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (البقرة: 205)، إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (يونس: 81)، وكثير غيرها من الآيات التي دعا الله من خلالها عباده للصلاح والإصلاح، لأنه لا يبارك عمل المفسدين الذي تضمحل به وتندثر معه أي حضارة مهما كانت قوتها وانتشارها.
الفكر والعقل أهم ما ميّز الإنسان
حتى يكون العمران أخويا على مراد الله سبحانه وتعالى، أمر القرآن الإنسان باستعمال العقل والفكر، والرفع من شأن التفكر والتدبر، لنجد كثيرا من الآيات تنتهي بـ “أفلا يتدبرون”، “أفلا يعقلون”، “وما يذكر إلا أولو الألباب”، “لعلكم تتفكرون”، وذلك ليتحقق المسلم من علو شأن من يتفكر ويتدبر مع اصطحاب العقل للتوجيهات والأوامر والنواهي القرآنية، وبغير ذلك قد يتجبر هذا العقل حتى يصبح إلاها يُعبد من دون الله.
والنهضة الحضارية لا بدّ لها من قوّة دافعة، تحرّك الإنسان نحو الهدف والغاية المنوطة به وبوجوده في هذه الأرض، فكان الإيمان بالله هو من يولّد هذه القوّة، عبر طاعته والالتزام بحدوده في كل شيء، حيث ينعكس ذلك على تصرفاته وسلوكه في العمارة وتشييد الحضارة والعمران الأخوي.
فبعد الخطاب بالإيمان بالله تعالى تأتي التكاليف مباشرة، فلا ينفصل الإيمان عن العمل، والعمل المطلوب كان دائما وأبدا ضمن ضوابط هذا الإيمان، مع استعمال العقل الذي أمر الإنسان باستخدامه فيما سخر له بتصور واضح لحقيقة الوجود والغاية من الحياة. ومن خلال هذه التصورات العقدية انطلق العقل المسلم يجوب شتى المجالات العمرانية بالعلم النافع، وباستخدام كل الأدوات الموصلة إليه، حيث فسح القرآن المجال لعقل الإنسان أن يبحث في كل المجالات الكونية سواء تعلق الأمر بالإنسان نفسه وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (الذاريات: 21)، أو بكل ما سخّر له لإعمار الأرض.
ومن هذه المنطلقات تحدث الإمام رحمه الله عن العقل الذي أشاد به القرآن: “ليس هو العقل الصنم الذي يقرر من داخل منطق الكفر المادي ويمرّر ويعرّف ما هو الحق من الباطل” 5، لأن منطق الكفر المادي تيه للعقل وسير على غير هدى. ويتمم الإمام قوله بإعطاء ثلاث محدّدات للعقل الذي أشاد به القرآن الكريم: “هو العقل الذي يتفكر في الخلق، يتفكر في أن لا بد للصنع من صانع، هذه واحدة والثانية أن هذا العقل هو الملكة المُستدل بها اعتمادا على مسبّقات مغروزة في الفطرة، على أنّ هذا الصنع لا يمكن أن يكون صانعه عابثا. والثالثة أن هذا العقل يتدبر الأولى والثانية ليستنتج منها نتيجة وجودية، لا نتيجة فكرية منطقية باردة. يستنتج العقل المحمود في القرآن اهتماما حميما بالمصير الشخصي بعد الموت لأن الموت من المعطيات الكونية العامة المندرجة في النظام العجيب، المثيرة أكثر من غيرها للسؤال المحوري: هل كل هذا عبث؟” 6.
بسياج الإيمان وتوجيهات القرآن يبقى العقل المؤمن ضمن دائرة البناء والعمران الأخوي بما ينفع العباد، لا يتعدى عتبة الغاية من الوجود، ولا الرؤية الثاقبة القرآنية لمفهوم الحضارة والعمران، العقل القرآني عقل مستجير بربه، واقف عل أعتابه، يلهمه الله عز وجل ما به يكون البناء ويعلو الصرح وتزدهر الحياة لينعم بنو البشر بحياة تهيئ لهم الرجوع للخالق عز وجل.
[2] المرجع نفسه، ص 19.
[3] أخرجه أحمد (8952)، والبيهقي ((شعب الإيمان)) (7978)، والحاكم (4221).
[4] عبد السلام ياسين، الإسلاميون والحكم، ط 2018/3، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ص 197.
[5] عبد السلام ياسين، الإحسان، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ج 2، ص 24.
[6] المصدر نفسه، ص 24.