أقدمت السلطات المغربية، هذه السنة أيضًا، على سحب كتاب “حضور في المكان.. آراء ومواقف” للأستاذ عبد الله حمودي الأنثروبولوجي المغربي المعروف، الذي يضم سلسلة من حواراته ومقالاته، التي أعدها للنشر كل من المؤرخ والناشط الحقوقي المعطي منجب، والصحفي والفاعل الحقوقي عبد اللطيف الحماموشي، وذلك ضمن فعاليات النسخة 28 من المعرض الدولي للكتاب الذي تنظمه وزارة الثقافة بشكل دوري كل سنة منذ عام 1987.
واكتفت وزارة الثقافة بإنكار قيامها بأي منع لتوقيع الكتاب ضمن فعاليات المعرض، وما نبست ببنت شفة بخصوص سحب الكتاب، مما يدل على أن القرار ليس قرارها أو أن التنفيذ نفسه لم يكن بأيدي أحد موظفيها!
سلوك سحب عدد من الكتب أو منعها أو مصادرتها لما ينشره معارضون صار فعلا مألوفا يتكرر كل سنة، حيث تابعنا السنة الماضية إقدام لجنة الرقابة بالمعرض الدولي للكتاب على سحب كل نسخ كتاب “سوسيولوجيا التدين.. مقاربة دراسة في الاعتقاد والممارسة بالمجتمع القروي”، لصاحبه علي تيزنت ومنع حفل توقيعه، الأمر الذي أثار استياء العديد من زوار المعرض ومعه الهيئات الحقوقية والعارضين أيضا في المعرض الدولي للكتاب.
وقد دأبت السلطات على سحب الكتب أو منعها على امتداد دورات المعرض الدولي أو المعارض المحلية بشكل غريب ومستهجن عند كل عاقل (مثل حالة منع حفل توقيع رواية “معزوفة لرقصة حمراء” للروائي عبد القادر الدحمني بالمعرض الجهوي للكتاب بالقصر الكبير، قبل أسابيع)، هذا فضلا عن حجم المضايقات والتعسفات غير القانونية التي تقوم بها المصالح الأمنية تجاه الكتّاب والكتب، والذي يتم تصريفه غالبا بأيدي وزارة الثقافة، مما يعكس عداءً شديدا يكنّه “القائمون على الأمر” ضد كل رأي حر!
ثقافة محاصرة
معاناة مضنية تلك التي يمر منها أي كاتب عصامي، يسعى بعد استكمال مسار دراسي طويل إلى محاولة الانفتاح على المجتمع بالبحث عن دار نشر تقتنع بعمله بعد عناء وتقوم بنشره بعد جهد جهيد، فالقراء قلة والكَتَبة أقل والناشرون أقل القلة، فلم يتجاوز عدد المؤلفين المغاربة الذين نشروا كتابا سنة 2022 أكثر من حوالي ألف و300 مؤلف، منهم 260 مؤلفا بادروا إلى نشر كتبهم على نفقتهم الخاصة.
فإكراهات دور النشر تفاقمت لعدة أسباب، منها الضعف الثقافي العام التي يتجلى في الاقبال المنخفض على القراءة في بلد لا زالت الأمية تنخر ثلث سكانه، ناهيك عن ضعف الطلب والشراء بسبب قلة اليد وارتفاع أسعار الكتب (حيث انتقل معدل سعر الكتاب المغربي من حوالي 61 درهما سنة 2016 إلى 97 درهما سنة 2022 حسب تقرير غير رسمي). ومن جهة أخرى وجود سوق إلكترونية هائلة أغنت كثير من المشترين عن اقتناء الكتب، فضلا عن التكلفة المرتفعة للطبع التي سببها غلاء أسعار مواد الطباعة، ومعاناتهم مع السرقة الإلكترونية للكتب، مما جعل وجود الدعم الرسمي سببا كبيرا جدا للبقاء والاستمرارية في طبع الكتب ونشرها.
هنا، وبدل أن نجد المؤسسات الرسمية وغير الرسمية تسعى إلى دعم هذا المسار التكويني والعلمي والبحثي للباحثين والكتاب الذي نادرا ما ينتهي إلى تأليف كتاب ونشره، نجد “وزارة الثقافة” تتكلف بمنع وحظر وسحب كل ما يروق الأجهزة الأمنية.
ثقافة ممنوعة
تشتكي الأنظمة الاستبدادية دوماً، ومن يدور في فلكها، حين تدور عليهم الدوائر من غياب المثقفين والمفكرين القادرين على تبليغ الرأي والحجاج عنه، لكنهم يحجبون حقيقة إسهام الأنظمة الضخم في تدمير أي فعل ثقافي.
فحجم الاهتمام ببناء أرضية ثقافية صلبة تعنى بتنمية النشاطات الفكرية يكاد يكون أحد آخر الاهتمامات، ناهيك عن أن تلعب الأدوار الريادية في تشكيل الثقافة العامة وتكوين مواطني المستقبل، وتم تعويض ذلك بكل ما يعزز الفرجة والاستعراض بل السفاهة والإسفاف بهدف تمييع المشهد الثقافي.
وما يؤكد اهتراء وضعف البنية التحتية الثقافية أن المعطيات والأرقام الرسمية تؤكد أن عدد المراكز الثقافية، إلى حدود 2012، بلغ ما مجموعه 71 مركزاً، منها 40 مركزاً تشرف عليه وزارة الثقافة، و624 خزانة عمومية أنجزت الوزارة منها 328، أو بشراكة، وهو ما يعني أن هناك مكتبة لكل 100 ألف نسمة.
وحتى الجهود الفردية المعزولة، القائمة بنفسها على تكوين نفسها والاعتماد على جهدها، لا تنال دعما وافرا ولا تشجيعا مساعدا، فلم تدعم وزارة الثقافة هذه السنة غير 46 كتابا من أصل ألف و300 كتاب، أي أقل من 4 في المئة. بل ونحن لا زلنا نذكر قيام وزير الثقافة بسحب “جائزة المغرب للكتاب” لدورة 2021 من الفائزين بها، “عقابًا” على مراسلة جماعية طالبوا فيها بالعودة إلى النص القانوني المنظّم لها وتمكينهم من قيمة الجائزة كاملة وليس مناصفة.
فرغم قيمتها المالية البخسة توّجت اللجنة المشرفة الفائزين مناصفة، وقام عدد من الفائزين بمراسلة الوزارة لشرح حيثيات توجب مكافأتهم بقيمة الجائزة كاملة حتى لا يتم تأويل المناصفة بأنه نصف قيمة الجائزة، معتمدين في ذلك على ما ينص عليه المرسوم المنظم للجائزة، لكن رد فعل الوزارة كان شديد الانفعال، حيث قامت بسحب الجائزة، وبعد اللجوء للمحكمة وإصدار الحكم لصالح الفائزين، قامت الوزارة باستئناف الحكم، ثم قامت وبشكل انتقامي، بإلغاء الجائزة بدعوى أنّ قانونها يخضع للتعديل. مما خلّف حالة غضب واستنكار شديد في كل الأوساط الثقافية.
ثقافة مراقبة
لا بناء ولا دعم، بل حرب واستئصال، هذا هو عنوان السياسة الثقافية الرسمية تجاه الفكر والكتاب والرأي، فرغم حجم الاهتمام بالثقافة في المغرب، بسبب قلة المكتبات وقلة دور الثقافة ومعارض النشر والكتاب، لا زالت الأجهزة الأمنية تتوجس وتتهيّب من تسلل مؤلفات المعارضين في شتى حقول المعرفة، وليست فقط المؤلفات المعارضة لها ولسياستها.
فقد تم القطع منذ سنوات مع المنشورات المعارضة، التي لا يراها المغاربة -إلا فيما نذر- إلا صادرة من الخارج، وتم تجفيف منابع أي مقاومة في مجال النشر والتأليف، حتى وصلنا إلى درجة أن الرقيب لم يعد هو الجهاز الأمني بل صار الرقيب هو المطبعات والمكتبات ودور النشر، رقابة ذاتية خائفة من أي اصطدام مع السياسة العامة القائمة خشية المضايقات والخضوع للمراجعة الضريبية الانتقامية.
وإلى الآن لا أحد يعلم يقينا كمّ المؤلفات التي أعدمت، منعا قبليا من الطبع والنشر أو سحبا بعديا من الأسواق، بناء على أمر مباشر من الأجهزة الأمنية.
وحتى من يعتبر أن مسألة المنع والمصادرة لم تعد مؤثرة بشكل كبير، بل هي نسبية فقط في ظل وجود الشبكات الرقمية مع سهولة التحميل والاطلاع، إلا أن مسطرة الرقابة والسحب تعمد إلى إثقال كاهل أصحاب النشر، وتشكل ضربة لوجستيكية تفعل فعلها على المدى البعيد، لتصير دور النشر متهيبة ومتخوفة من طبع مؤلفات أشخاص مغضوب عليهم، أو مشكوك في أنهم من المغضوب عليهم، طالما أن الخسارة ستكون بسببهم مكلفة بفقدان عدد كبير من النسخ التي ستؤدي لا محالة إلى الغرق في الديون، نتيجة الحملات المستمرة التي تشنها السلطات تجاه جميع الكتب المغضوب عليهم.
ثقافة دعائية
المعرض الدولي للكتاب بحد ذاته، الذي ينال في كل مرة حظا وافراً من سحب الكتب والمؤلفات، جرى بشكل غريب تغيير مكانه من الدار البيضاء إلى مدينة الرباط، لكن الأغرب كان كيفية تغيير توقيته من وسط العام شهر فبراير، مع ما يعرفه من إقبال متنوع إلى شهر يونيو ليتزامن مع امتحانات تلاميذ الباكالوريا واختبارات الطلبة، مما يوحي بخلفية تحكمية حتى في هذه المحطة الثقافية لتصبح واجهة لتصدير مشهد ثقافي متحكم فيه.