الكرامة الإنسانية في القرآن الكريم

Cover Image for الكرامة الإنسانية في القرآن الكريم
نشر بتاريخ

تقديم

تعتبر “الكرامة الإنسانية” أحد المبادئ العالمية المتعارف عليها بين الأمم والشعوب، وهي أصل وقاعدة ومنطلق حقوق الإنسان. كما تعد من أهم القضايا الإنسانية الحديثة لدى المنتديات والمنظمات الإنسانية الدولية، ونظرا لأهمية هذا المبدأ فقد جرى استخدام تعبير الكرامة الإنسانية بشكل متكرر في العديد من الوثائق والدساتير والقوانين الوضعية.

فما المقصود بمصطلح “الكرامة الإنسانية” لغويا وفي الاصطلاح الإنساني والحقوقي؟

وما المفهوم الإسلامي لهذا المصطلح؟ وما هي مظاهر اعتناء الدين الإسلامي بـ”الكرامة الإنسانية” وضمان رعايتها من خلال آيات القرآن الكريم؟

أولا- التعريف اللغوي والاصطلاحي للكرامة الإنسانية

الكرامة كما جاء في المعاجم اللغوية هي الشرف والقيمة، وكرامة النفس ترفعها وتصونها. يقال: كرم الشيء بضم الراء كرما وكرامة إذا نفس وعز فهو كريم، وله علي كرامة أي عزازة، وكل شيء شرف في بابه فإنه يوصف بالكرم، ولا يقال في الإنسان كريم حتى تظهر منه أخلاق وأفعال محمودة.

وكرمته تكريما، وأكرمته إكراما؛ عظمته ونزهته. والمكرمة بضم الراء أهم من الكرم، والتكريم. تقول فعل الخير مكرمة؛ أي سبب للكرم أو التكريم.

وتعرف الكرامة الإنسانية بأنها إحساس بقيمة الذات وشعور بالفخر في ذات الإنسان يجعله يستحق الاحترام والتقدير من الآخرين، وهي تعني أن يعامل الإنسان على أنه غاية بنفسه وليس وسيلة أو أداة، وأن يحترم كإنسان وليس لما يملكه من جاه ومال أو لما يتمتع به من صفات جسمية أو عقلية أو لما يتصف به من مواهب وعطاءات.

وقد تم استخدام مصطلح “الكرامة الإنسانية” حديثا في العديد من الدساتير والقوانين الوضعية، فكان الايرلنديون أول من أدخل هذا المفهوم إلى دستورهم في عام 1937، كما ربط الألمان دستورهم بالكرامة الإنسانية التي جعلوها كأعظم مبدأ دستوري، فكانت صيغة الفقرة الأولى من الدستور الألماني هي: “كرامة الإنسان هي أمر لا يمس به واحترامها وحمايتها هي واجب كل السلطات”.

كما جرى النص على مبدأ احترام كرامة الإنسان في الوثائق الدولية ذات الصلة كما في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948م، والذي نصت مادته الأولى على أن الناس جميعا ولدوا متساوين في الكرامة الإنسانية.

وإذا كان ظهور مفهوم الكرامة الإنسانية في القوانين الوضعية يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، فإننا نجد أن القرآن الكريم – دستور المسلمين – قد أكد على هذا المبدأ وقرره قبل أربعة عشر قرنا، فكان له السبق والريادة على جميع الدساتير والقوانين الوضعية.

ثانيا- مفهوم الكرامة الإنسانية في القرآن الكريم

جاء الإسلام ليؤكد على أصالة الكرامة الإنسانية وليرسخ في الإنسان إحساسه بكرامته وليقوي تمسكه بها وصونه لها لأنها جوهر إنسانيته، فالإنسان في الإسلام هو محور الاهتمام ولأجله جاء الدين وهو المخاطب به، فهو مكرم من خالقه لمجرد إنسانيته، وهذه قاعدة عامة في الإسلام، وهذا التكريم الإلاهي الذي يعم البشرية قاطبة بدون تمييز بجنس أو لون أو عرق  أو دين أو أي سبب من أسباب التمييز التي يعرفها البشر، مستمد من قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء، 70)، فهذه الآية الكريمة تشكل القاعدة الأساسية لمعرفة نظرية الإسلام في كرامة الإنسان.

يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: “يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها، فالآية دالة على أن الله شرف ذرية آدم على جميع المخلوقات بالعقل والعلم والنطق وتسخير جميع ما في الكون له ولخدمته”.

قال الفخر الرازي: كل ما حصل للإنسان من المراتب العالية والصفات الشريفة فهي إنما حصلت بإحسان الله تعالى وإنعامه، فلهذا المعنى قال تعالى: ولقد كرمنا بني آدم ومن تمام كرامته على الله تعالى أنه سبحانه لما خلقه في أول الأمر وصف نفسه بأنه “أكرم” فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (العلق، 1 – 2)، ووصف نفسه بالتكريم عند تربيته للإنسان فقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ (الإسراء، من الآية 70)، ووصف نفسه بالكرم في آخر أحوال الإنسان فقال: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (الانفطار، 6). وهذا يدل على أنه لا نهاية لكرم الله تعالى ولفضله وإحسانه مع الإنسان.

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “إن الله خلق الإنسان وهيأه لكرامته في الدنيا باعتباره من بني آدم قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء، 70)، فالأرض وخيراتها لبني آدم خلقت، وخلق ابن آدم للكرامة عند الله إن لم تستعبده شهواته ولم تفتنه الدنيا” (1).

وإذا كانت الآية الكريمة في سورة الإسراء توضح أساس وقاعدة تكريم الإنسان في الإسلام وهي أنه مخلوق مكرم، فما هي تجليات ومظاهر هذا التكريم الإلهي للإنسان في القرآن الكريم؟

ثالثا- مظاهر الكرامة الإنسانية في القرآن الكريم

لقد أنعم الله على الإنسان بأن كرمه وفضله على كثير من مخلوقاته، وهذا التكريم يتجلى في عدة مظاهر نجملها في الآتي:

1-  “أنه خلقه الله تعالى بيده ونفخ فيه من روحه، وهذا لم يحصل لكائن آخر، قال تعالى مخاطبا إبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (ص، من الآية 75)، فأول تكريم لآدم أن خلقه الله بيده وهذا فيه تنبيه على أن هذا الخلق ليس خلقا عاديا من قبيل “كن فيكون” ولكنه خلق له خصوصية وهي أن الله باشره بيده ثم بعد ذلك نفخ عز وجل في هذا المخلوق من روحه، قال تعالى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ فإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (ص، من الآيتين 71 و72)” (2).

يقول الأستاذ سيد قطب: “وقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه، كرمه بخلقته على تلك الهيئة بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان” (3).

2-  كرم الله تعالى الإنسان بأنه خلقه في أحسن تقويم وصوره أجمل تصوير من بين سائر المخلوقات، يقول تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين، من الآية 4)، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ (التغابن، من الآية 3)، يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ .  الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ . فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (الانفطار، 6 – 8).

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: (كرم الله تعالى الإنسان إذ خلقه في أحسن تقويم، لا يرى هنا في الدنيا إلا ما تكشف له علوم الطب من بديع صنع الله في جسمه، وينتظره في الآخرة إن آمن واستقام النشأة الكاملة الأحسن تقويما، والنعيم المقيم والنظر إلى وجه الله” (4).

3-  كرمه الله تعالى بأن جعله خليفة في الأرض وأسجد له الملائكة، وهذا من أعظم مظاهر التكريم الإلهي للإنسان وأسماها مرتبة، يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (البقرة، 30)، ويقول عز من قائل: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (ص، 71 – 72).

يقول سيد قطب رحمه الله: “وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته والتي استأهل بها الخلافة في الأرض يغير ويبدل وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة، وكرمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان، وكرمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملأ الأعلى الباقي في الأرض:  القرآن” (5).

“وإسجاد الملائكة له سجود تكريم فيه إشعار بأن جميع هؤلاء الملائكة وهم جنود مجندون للقيام بوظائف لا عد لها في ملك الله سيخدمون هذا الكون الذي هو أيضا خادم لهذا الإنسان ليعبد هذا الإنسان الله عز وجل” (6).

4-  تسخير ما في الكون لخدمة الإنسان ولتأدية واجب الخلافة:  يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (لقمان، 20).

ويقول سبحانه وتعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ . وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (إبراهيم، 32-34).

يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: (كل ما في الكون يكتسب صلاحيته ومنطقه ووظيفته ومعناه من الإنسان. من الذرة إلى الأفلاك نظام كامل يشد بعضه بعضا، ويفسر بعضه بعضا وينطق كله بلسان الحال مخاطبا من يعقل أنه ممهد للإنسان؛ لمأكل الإنسان ومشربه وملبسه ومأواه ودفئه وراحته وبلائه واختباره وتعارفه وتواصله، الشمس والقمر والبر والبحر والشجر والقمر والدواب والأنعام والعقل العجيب المركب في الجسم الغريب) (7).

5-  كرامة العقل وغيره من مفاتيح المعرفة والإدراك كالنظر والسمع والبصر والتفكر…

يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله:  “كرامة الله لبني آدم تتمثل في هذه الموهبة العظيمة: العقل. من بني آدم من تولى ولم تبلغه دعوة الرسل فهو كالبهيمة ذو عقل معاشي يأكل ويشرب ويتمتع كما تتمتع الأنعام، ومن بني آدم من استجاب لداعي الله ففتح الله لعقله وقلبه أبواب الهداية  وسبل السعادة، فهو على طريق آدم عليه السلام الذي سواه الله ونفخ فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض وأسجد له الملائكة” (8).

ويقول أيضا: “كرمه الله تعالى بالعقل وأهل هذا العقل بملكة البيان، البيان هو الكشف عما في الضمير لمخاطب تريد إفهامه وهدايته. البيان منة عظيمة من مننه سبحانه هو الواسطة بين الوحي والعقل. النطق المعرب عن العقل أهم ما يميز الإنسان عن البهيمة، الكلام واللغة من خصائص بني آدم. لكن الكلام واللغة لا ترفع الإنسان عن مرتبة الحيوانية التي يشبهها بالجسم، إنما يرفعه عن حضيض الحيوانية الناطقة المتكلمة اللاغية فتح سمعه لتلقي الوحي من الرسل عليهم السلام، منة السمع وحاسة السمع وكرامة السمع من أعظم عطايا الرب سبحانه إذ هي القناة التي منها يصل خبر وجود الله والعلم بالله والعلم بطريق السعادة وحقائق المحيا والممات” (9).

يقول سبحانه وتعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ (الأعراف، 185)، أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى (الروم، من الآية 8)، قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ (الملك، 23)، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا (الحج، من الآية 46)، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ (البقرة، من الآية 269).

6-  كرم الله الإنسان بأن خلقه على الفطرة السليمة: من كرامة الإنسان أن خلقه الله مجبولا على الإيمان، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الروم، الآية 30)، قال عكرمة رحمه الله: فطرة الله التي فطر الناس عليها: الإسلام. روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كلُ مولودٍ يولدُ على الفطرةِ فأبواه يهودانِه أو ينَصِّرانِه أو يُمَجِّسَانِه، كما تُنْتِجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ، هل تُحِسُّونَ فيها من جَدْعاءَ؟ ثم يقولُ أبو هريرةَ: اقرؤوا إن شئْتم: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ (10).

يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “يتضح من الآية الكريمة والحديث وكلام المفسرين أن الفطرة التي خلق الناس عليها هي قبول ألوهيته سبحانه والخضوع له وهو معنى الدين، ويتضح أن هذه الفطرة تفسد بتأثير التربية من كون الأبوين إذا لم يكونا مسلمين فينشأ المولود في حجرهما على الفطرة، يهودان وينصران ويمجسان” (11).

“بمعنى سلامة الفطرة سلامة هذه الخلقة الباطنية المعبر عنها بالقلب واستعدادها لتلقي الإيمان بالله عز وجل وبغيبه وكفاءتها لمعرفته سبحانه وتعالى على ما يتجلى لها ويعلمها” (12).

7 –  كرم الله الإنسان بإرسال الرسل والأنبياء: اختار الله من هذه البرية المكرمة صفوة من الأنبياء  والمرسلين واجتباهم لهداية العالمين، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (النحل، من الآية 36)، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ (الحديد، من الآية 25)، رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (النساء، 165).

يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “التكريم الأعظم للإنسان هو أن خالقه سبحانه يخاطبه ببيان الرسول يدعوه إليه يبعث إليه رسلا مبشرين ومنذرين معلمين مربين حريصين على هداية الخلق صابرين على أذاهم معايشين لهم” (13).

“ومن عناية ربنا جل وعلا بالإنسان وحدبه عليه أن بعث إليه رسلا بلغوه أن له ربا وأن ربه لا يريد له أن يشرك به شيئا ولا أن يظلم الناس ولا أن تستفزه الدنيا فينسى الآخرة ولا أن تغره قوته فيستعبد الضعيف، ولا أن تأخذه الشهوة والحس والمتاع فينسى أن له قلبا على صلاحه مدار سعادته في الدنيا والآخرة” (14).

8 –  من مظاهر تكريم الإنسان في الإسلام أنه أمر بعبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات، 56)، جعل الله الهدف من خلق الإنسان هو عبادة الله وحده ورتب أشد العقوبة على الإشراك به فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا (النساء، 48).

“لأن عبادة الإنسان لغير الله فيها إهانة عظيمة لآدم الذي ننتسب له والذي أسجد له الملائكة وجعله خليفة وسيدا على سواه، عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له، وتعبيد الناس لله وحده لا شريك له هي أكبر مظاهر تكريم بني آدم” (15).

يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “أول الواجبات وأقدس ما يكرم الإنسان إفراد الله بالعبادة. قال المجاهد في ديوان رستم قائد الفرس في العهد الأول. الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام” (16).

9 – من مظاهر الكرامة الإنسانية الاعتناء بالنفس الإنسانية من خلال تحريم القتل وكل أشكال الاعتداء الجسدي أو اللفظي. قال تعالى: مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا (المائدة، من الآية 32).

وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ۝ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا (النساء، 29 – 30).

وكما حرم الإسلام الإيذاء البدني حرم الإساءة اللفظية أيضا من الهمز واللمز والتنابز بالألقاب والسخرية والغيبة والشتم وسوء الظن بالناس.

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الحجرات، 11).

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (الحجرات، 12).

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: “فأما هذه الآية فتقيم سياجا آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم في أسلوب مؤثر عجيب. فأي مدى من صيانة كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم واعتبارهم ينتهي إليه هذا النص! ؟ وأين أقصى ما تتعاجب به أحسن البلاد ديموقراطية وحرية وصيانة لحقوق الإنسان فيها من هذا المدى الذي هتف به القرآن للذين آمنوا، وقام عليه المجتمع الإسلامي فعلا وحققه في واقع الحياة بعد أن حققه في واقع الضمير” (17).

خاتمة

بعد استعراضنا لمجمل مظاهر تكريم الإنسان في القرآن الكريم نخلص إلى أن الإسلام هو دين “الكرامة الإنسانية”، فالشارع الحكيم ما ترك أمرا يحفظ للإنسان كرامته إلا وحث عليه بل وأوجبه، وبالمقابل نهى عن كل ما يمس بهذه الكرامة ويخدشها.

ونتساءل هنا: ما الغاية من وراء هذا التكريم الإلهي لبني آدم؟ وما المطلوب منا في مقابله؟

يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “أكرمنا الله سبحانه هنا في الدنيا بعطايا ومزايا ونعم يبتلينا بها أنشكر ونومن أم نجحد ونكفر. وإن كل هذه العطايا إلا جهاز ومتاع وآلة لنكسب بها الفلاح الأخروي الأبدي” (18).

“شرف الإنسان وكرامته وحريته تأتي من كونه مخلوقا سماويا بروحه، يثقله الجسم الأرضي بحاجاته وظروفه الحيوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية عن الصعود من سجنه الأرضي إلى سعادة الأبد. فيريد له الإسلام أن تعبد له الطريق وتوفر له وسائل رحلة فيما بين نقطة ميلاده ولحظة موته من حيوانيته لروحانيته، من غفلته عن الله عز وجل لذكره، من كبده في الدنيا لارتياحه بلقاء ربه وهو عنه راض” (19).


(1) عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، الطبعة الأولى 2009، الفصل الخامس: الكرامة الآدمية، ص 97.

(2) الشاهد البوشيخي، السلسلة القرآنية، مظاهر تكريم الإنسان في القرآن الكريم، ص 5.

(3) في ظلال القرآن، الجزء الرابع، ص 2241.

(4) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج 1، ص 259-260.

(5) في ظلال القرآن، ج 4، ص 2241.

(6) السلسلة القرآنية، م. س. ص 5.

(7) عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، طبعة 1994، ص 217.

(8) تنوير المومنات، ج 1، ص 248 – 249.

(9) تنوير المومنات، ج 1، ص 260.

(10) أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658) باختلاف يسير.

(11) إمامة الأمة، الفصل السادس، ص 126.

(12) المصدر نفسه، ص 127.

(13) تنوير المومنات، ج 1،  ص 261.

(14) إمامة الأمة، الفصل 5، ص 97.

(15) الشاهد البوشيخي، م. س.

(16) عبد السلام ياسين، محنة العقل المسلم، ص 76.

(17) في ظلال القرآن، الجزء 6.

(18) تنوير المومنات، ج 1، ص 250.

(19) إمامة الأمة، الفصل الخامس، ص 99.