هذه قصة شاب في مستوى البكالوريا جاءني يوما طالبا استشارة، فتحولت مقابلة الاستشارة إلى بداية لمسلسل بطلته “الكلمة الجارحة”. مسلسل لم أكن أتوقع نهايته. أنشرها تقاسما لدروسها مع المربين في الأسرة والمدرسة.
*
قال لي: لا أحب العودة للدراسة… أصبحت أكره الكتاب والأستاذ وأجواء الثانوية.
قلت: تقصد أنك لا تجد راحتك وبغيتك في المدرسة.
قال: نعم بالضبط.
قلت: أين تجد راحتك إذن؟ ما الذي تحب أن تمضي فيه وقتا طويلا دون ملل؟
نظر إلي نظرة مستغرب، أحسست أنه يبحث في داخله عن جواب مفقود، قال مترددا في شكل سؤال: الفيسبوك؟
قلت له: أنت إذن تهيء لمستقبلك ومسار حياتك على الفيسبوك؟
فهم رسالتي، ابتسم بسخرية.. وعاد للبحث في دواخله، قال: أنا تائه… لا تسير الأمور في حياتي كما يجب.
قلت: كيف يجب أن تكون في نظرك؟
قال: يجب أن أحب الدراسة، وعلي أن أنجح لتفرح أمي ويرضى أبي..
قلت: وماذا عنك أنت، ألن تفرح بنجاحك؟ ألن ترضى به؟
قال وهو ينظر إلى الأرض نظرة عميقة: لا أريد أن أنجح.
قلت: ما معنى النجاح بالنسبة لك؟
قال: النجاح هو نهاية سعيدة لحلم جميل، ولأني لا أحب لأحلامي أن تنتهي فلا أريد أن أحقق أي نجاح.
يا الله، ماذا يقول هذا الشاب؟
قلت: يعني أنك تجد المتعة في الفشل.
قال: ليس تماما… لكن أخشى أن تنتهي سعادتي بحلمي فور تحققه.
قلت: ليس هناك نجاح واحد في الحياة… ما إن تحقق واحدا حتى يتعلق قلبك بآخر إلى أن تلقى الله تعالى.
قال: وماذا يحدث لو لقيته وأنا لم أحقق أي نجاح في الحياة؟ ألن يكون راضيا عني؟
قلت: رضى الله لا علاقة له بنجاحات الحياة بشكل مباشر… إلا إن كرست نجاح الدنيا لتحقيق نجاح لقائك به… لكن أن تفشل في الحياة لا يعني أن الله لن يرضى عنك.
قال: ولماذا أبي لا يفهم ذلك… لماذا يربط رضاه عني بنجاحي في الحياة؟
واضح أن الشاب يعاني من سوء تصرف أبيه معه، واضح أن الأمر تجاوز حدود التحمل… صعب علي أن أدخل في نقاش سلوك الأب سواء بالدفاع عنه أو مجاراة ابنه فيما يقول.. هو يريدني أن أدخل في هذه التفاصيل.. لكنها منطقة فشلي أكيد، لذلك تحاشيت الأمر هذه المرة على الأقل.
قلت: دعك من أبيك وما يرضيه، قل لي أنت ماذا يرضيك؟
قال: الأمر مضبب عندي… وما يريده أبي مسيطر علي حتى أني لا أجد جوابا لسؤالك.. لست أدري ما أريد.
قلت: هذه بداية جيدة… أقدر فيك احترام أبيك، لكن من المفيد أن تفصل ذاتك عنه حتى ترسم مسارك بوضوح، اعرف ذاتك أولا، فكر جيدا فيما تحب وماذا تحب أن تكون. وفي المرة القادمة نتحدث عنك وحدك، أما أبوك فيمكنني أن ألتقيه بمفرده إن أذنت لي بذلك… فكر وإن احتجت لتدخلي سأكون رهن إشارتك.
قال: لو حللت عقدة أبي ستحل عقدتي.
قلت: ليس هناك أية عقد في الموضوع، هناك فقط زوايا نظر مختلفة سيسهل توحيدها.
قال: شكرا لك، ابتسم ابتسامة عريضة وأضاف: علي أن أفكر في ذاتي وفيما أريد، هل سأنجح في ذلك لوحدي؟
قلت: طبعا… وسيكون أول نجاح تحققه وتشعر بحلاوته.
قال: لا أحد يثق في؟ لماذا أنت واثق؟
قلت: أرى في عينيك توقدا وعزيمة، أزح عنك الضغوط وفكر… وفي المرة القادمة سنفرح معا بنجاحك.
نزلت دمعة من عينيه، كفكفها بسرعة، وقال: هل لك ابن مثلي؟
عاد مرة أخرى لقصة أبيه، قلت له: يا فلان؛ أنا أصغر مما تتوقع، أبنائي أصغر منك بكثير.
ضحكنا معا وانصرف بعد سلام حار.. قال قريبا نلتقي.
كانت النتائج الدراسية ليونس (اسم مستعار) جد متذبذبة. معدل الامتحان الجهوي جد ضعيف. ومن غير الملاحظات النمطية للأساتذة (مثل: ضعيف، لابأس به، متوسط) والتي لا تقول أي شيء غير تفسير النقطة، كتب أستاذ اللغة العربية: “تلميذ نبيه يمكنه تحقيق نتائج أفضل”.
في زيارته الثانية لي قلت: ماذا فعلت بخصوص الاتفاق، هل فكرت فيما تريد وفيما تحب؟
قال: نعم فعلت، وضحك ضحكة تجمع بين التهكم وعدم الثقة فيما وصل إليه.
قلت: الكلمة لك، كلي آذان صاغية.
تتمة القصة على موقع مومنات نت.