اللمة نعمة ومسؤولية

Cover Image for اللمة نعمة ومسؤولية
نشر بتاريخ

تقديم

الأسرة هي النواة الأولى لبناء المجتمعات، وهي الملاذ الدافئ الذي يوفر الحب والأمان والسكينة لأفرادها. واللمة الأسرية ليست مجرد عادة روتينية، بل هي لقاء هادف ونشاط بانٍ يفيض بالود والترابط والانسجام النفسي، وتحكمه أهداف قبلية. إنها حاجة إنسانية أساسية وفطرة أودعها الله فينا لنكون سندًا ودعمًا لبعضنا البعض في رحلتنا الدنيوية العابرة، وتمرير المشعل للأجيال القادمة واضعين نصب أعيننا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].

فمن خلال التحديات المعاصرة اتضح بما لا يدع مجالا للشك مدى أهمية اللمة الأسرية في الحفاظ على القيم وتحصين الأسرة من كل عوامل الهدم ودعوات التخريب والإفساد خاصة في عصرنا هذا، واتضح جليا دورها كضرورة اجتماعية ونفسية وتربوية تستحق منا مزيدا من العمل والاهتمام .

اللمة الأسرية نعمة إلهية

اللمة الأسرية نعمة تستوجب منا الشكر؛ شكره سبحانه وتعالى على نعمة الإيجاد أن خلقنا من عدم وأوجدنا في هذا الكون، وشكره على نعمة الإمداد أن جعلنا من المسلمين ورزقنا صحبة المؤمنين، يقول الله عز وجل: قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف: 15]. فشكر نعمه يكون بالعمل الصالح وبأن تكون أسرنا أسرا رسالية وحاملة لمشعل الخير للعالمين.

اللمة الأسرية عبادة جماعية

تستوجب استحضار النية لرفعها من مستوى العادة إلى مقام العبادة، فهي ليست مجرد اجتماع للأجساد بل انجماع للقلوب على ذكر الله وترقي في مدارج الإيمان؛ من خلال الكلمة الطيبة والحكمة والموعظة الحسنة والدعاء.. وهي دعوة بالحال قبل المقال، وتذكير دائم بالله وباليوم الآخر.. يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6].

اللمة الأسرية فطرة بشرية

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13]. فاللمة الأسرية هي المنطلق الأول للتعبير عن هذا المفهوم القرآني للتعارف، فالأسرة ليست مجرد تجمع بيولوجي بل فرصة لتجسيد معاني التقوى والتعارف والإخاء والتعاون بين أفراد الأسرة، تماما كما أراد الله سبحانه وتعالى للإنسانية جمعاء.

اللمة الأسرية سنة نبوية

 عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول ﷺ: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي” 1. فاللمة الأسرية ليست مجرد عادة اجتماعية وإنما هي تجسيد للهدي النبوي واقتداء به ﷺ، فقد كان ﷺ يجالس أزواجه ويتحاور معهن ويمازحهن ويشاركهن أمور الحياة ويعاملهن بلطف وإحسان ومودة ورحمة ، نفس الأمر لأحفاده وأبنائه وبناته، حتى بعد زواجهن كان يخصص وقتا لزيارتهن ومجالستهن، لم تشغله ﷺ أعباء الدولة والدعوة عن القيام بأدواره الأسرية على أحسن مايرام. فمن تأمل سيرته ﷺ، ووقف على حاله في بيته وتفانيه في خدمة أهله، لظن أنه لا يشغله سوى أسرته، ومن نظر إليه من زاوية الجهاد والدعوة وبناء الدولة، لظن أنه منشغل عن أهل بيته. لكنه ﷺ جسّد أسمى معاني الكمال البشري، فوازن بين مسؤولياته العظيمة تجاه أمته ورعايته لأسرته، فكان خير قائد وخير زوج وأب.

اللمة الأسرية وسيلة تربوية

ليست مجرد تجمع عائلي عفوي، وإنما هي فعل راشد وعمل قاصد ما فتئ الإمام المجدد رحمه الله يوصي غير ما مرة بها في مجالسه مؤكدا على ورد “ربع ساعة للأهل والولد” لما له من أهمية في بناء الفرد والمجتمع. فهي مدرسة قائمة للتربية والتعليم والتدريب والتأهيل لتمرير مجموعة من القيم وتعزيزها وتصحيح للسلوكيات والأفهام، لإعداد طاقات قيادية حاملة لمشروع، وشامة بين أقرانها. فاللمة الأسرية هي المحضن الأول، وهي من مؤسسات التنشئة الاجتماعية إلى جانب المدرسة والشارع.. وهذا كله يقتضي من الأسرة العمل من خلال أنشطة بانية وجلسات حميمية لتمرير مجموعة من القيم الأخلاقية والإيمانية، ومحكومة ببرنامج ووسائل وأهداف واضحة.

اللمة الأسرية ضرورة اجتماعية

قال ﷺ: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” 2. “ومن ضخامة تبعة هذه المؤسسة … ثانيا: إمداد المجتمع الإنساني بعوامل الامتداد والترقي” 3.  فمن أهم الأدوار المنوطة بالأسرة حسب الحديث النبوي ومن خلال كلام السيد قطب رحمه الله؛ أنها تساهم في تعزيز قيم التضامن والتكافل بين أفراد الأسرة، وكذلك تحصين الأسرة ضد عوامل التفكك الأسري خاصة في عصرنا هذا الذي غزته العولمة وظاهرة العزلة الرقمية، مما يزيد من تحديات الأسرة قصد تحقيق التماسك والاستقرار الاجتماعي كي تنعكس إيجابا على المجتمع.

اللمة الأسرية حاجة نفسية

قال النبي ﷺ: “من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في بدنه عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها” 4. يُبرز هذا الحديث أهمية الأمان النفسي كأساس للحياة الطيبة.

فالأسرة هي المحضن الدافئ والملاذ الآمن الذي يشبع احتياجات أفرادها النفسية والعاطفية. من خلالها، يتم تلبية احتياجات الحب والانتماء والتقدير، إضافة إلى الشعور بالأمن والأمان. فاللمة الأسرية ليست مجرد تجمع جسدي، بل هي سكن للقلوب، وملاذ من ضغوط الحياة وعواصفها.

ومن أهم الأدوار المنوطة بالأسرة؛ “توفير السكن والطمأنينة والستر والإحصان للنفس بشطريها” 5.  فالأسرة سكن وملاذ ورحمة وطمأنينة، نستمد منها القوة وتعيننا بعد الله على مواجهة تحديات الحياة وتقلباتها .

اللمة الأسرية مسؤولية جماعية

وذلك من خلال التزام جماعي وانخراط إيجابي وبكل فاعلية لكل أعضائها بدون إقصاء ولا تهميش. ومن مؤشرات الاستقرار النفسي والاجتماعي للأسرة تكامل أدوار أعضائها واستشعار عظم المسؤولية الملقاة عليهم مما ينعكس إيجابا على محيطهم الخارجي.

اللمة الأسرية منطلق للدعوة ومهد للقومة والتغيير المنشود

فهي ليست مجرد لقاءات عابرة ومحدودة في الزمان والمكان، بل بالعكس سيشع نورها وتؤتي أكلها بإذن ربها إن صلحت النية وصلح العمل؛ “فما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل” [الإمام مالك].

ومن أدوار الأسرة يقول السيد قطب رحمه الله: ” ثانيا: … إمداد المجتمع الإنساني بعوامل الامتداد والترقي”. ويضيف الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله وظيفة ثالثة للأسرة؛ وهي الوظيفة الدعوية، حيث يصبح البيت المسلم منطلقا للتغيير المنشود، “من البيت الإسلامي تنطلق القومة، إن كان البيت يسكنه مومنون، وكانت قلوب المومنين يسكنها حب الله، والخوف من الله والرجاء” 6.

خاتمة

في الختام، نستخلص أن اللمة الأسرية هي الأساس الذي يستند إليه الفرد في مواجهة تحديات الحياة. فهي الدفء الذي يعيد التوازن إلى النفوس، والمنبع الذي يغذي العلاقات الإنسانية بقيم الحب والمودة. فلنحرص على أن نجعل من اللمة الأسرية لقاءً لما بعده يروم حمل رسائل الدعوة والحب والخير والعطاء للأمة، ولتكن محطة للتغيير الإيجابي في حياتنا وحياة أسرنا. إن الاستثمار في هذه النعمة الربانية هو استثمار في مستقبلنا ومستقبل الأجيال المقبلة لبناء مجتمع يسوده العدل ويزينه الإحسان، مجتمع أكثر انسجامًا وإبداعا.


[1] صحيح مسلم، حديث رقم 2309، عن أنس بن مالك.
[2] صحيح الجامع، حديث رقم 5849، تحقيق الألباني. تخريج الحديث: أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586).
[3] سيد قطب، في ظلال القرآن، الجزء الثاني، ص. 649.
[4] البخاري، الأدب المفرد، وكذلك رواه ابن ماجة وابن حبان، وقال الترمذي: حديث حسن.
[5] سيد قطب، في ظلال القرآن، الجزء الثاني، ص. 649.
[6] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، الجزء الثاني، ص. 246.