قرأنا في حديث عمر في فقرة سابقة أن المهاجرين المتطبعين بعادات قريش كانوا «يغلبون» نساءهم، فلما هاجروا إلى المدينة وجدوا الأنصار «تغلبهم» نساؤهم. فتعلمت المهاجرات من الأنصاريات أن «يغالبن» الرجال على حقوقهن وأن يُراجِعْن كلام الزوج وأن يرفعن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شكواهن.
في ذلك العهد الفاضل، والمؤمنات والمؤمنون تحت التربية، لم يُفْضِ هذا التغالب إلى نزاع وخصام وعداوة. بل هذبته التربية وهذبه القرآن الذي جعل للرجال على النساء «درجة» مارس الرجال مسؤوليتها برفق ومداراة وحكمة ومودة ورحمة. كانت المرأة المؤمنة في بيت زوجها معززة معتَرفاً بحقوقها، جاهرةً مجادلة عن حقها بحرية وشجاعة، مسموعة تظلماتها، يسمعها رب العزة سبحانه ويقضي فيها رسوله بالعدل إن لم يكن ظالمها مُحسنا يستبق إلى الخيرات ويوفي الضعيفة المرأة حقها وزيادة.
ثم هبطت المجتمعات الإسلامية وهانت المرأة بعد عز، وسكتت، بل أُسكتت، بعد إفصاح، وألجمت بعد انطلاق. ألجمها فقه منحسر منحبس، وأهانها وأسكتها تعسف الرجال في ممارسة «الدرجة» المسؤولية، وقد تحولت «الدرجة» استعلاء.
اليوم كفة المرأة طائشة في المجتمع المسلم رقيق الدين، كما أن كفة المرأة مرجوحة في مجتمع المارقين من الدين. فالمسلمات الجاهلات بحقوقهن الساكتات عنها، يطلبن المساواة مع الرجل كما تطلبها المارقات من بنات جلدتنا الموصولات فكرا ونمط حياة بالجاهلية المارقة.
المؤمنات والمؤمنون أكفاء في شرع الله المنزَّل بميزان العدل. لا ترجَحُ كفة الرجل ولا كِفة المرأة إلا بالتقوى. تجد هي ويجد هو فضل ذلك الرجحان في ميزان الحسنات يوم القيامة. أما التكافؤ في الحقوق.
والواجبات هنا في الدنيا فمحكوم بشريعة مفصلة ثابتة ثبوت الفَلَك الدَّوّار وثبوت نواميس الله في الكون. فإذا وقع التحول بالهبوط أو الانحراف في أشخاص ذوي الحقوق وفي بيئتهم الاجتماعية والعالمية فإن مرونة الاجتهاد تُكيف ما بين الواقع وبين المطلوب الشرعي بالتدرج والتقريب وإعمال وازعَيْ القرآن والسلطان.
هذه «الدرجة» التي أعطاها الله عز وجل للرجال على النساء بصريح النص القرآني هي ترجيح لكِفة الرجال في ظاهر الأمر. وهي إنما هي تثقيل لميزان الرجل بمثاقيل المسؤولية، وتخفيف عن أعباء المرأة التي ندبها الشرع لمسؤولية عظيمة يصرح بها الشرع ويلوح إليها ويضمِّنها أحكام التوزيع للواجبات والمسؤوليات بين الرجل والمرأة.
«الدرجة» إمارة في القافلة الاجتماعية الزوجية السياسية. هي بمثابة أمير السفر الذي أوصت به السنة النبوية. إمارة بدونها تكون الفوضى في القافلة، فتضعف، فيجد العدو فيها مغمزا، فيعدو عليها ويمزقها.
أساء المسلمون الرجال ممارسة «الدرجة»، فالمسلمات يطلبن عدلا، والمارقات المندسات الكاتبات الخاطبات يردن انتزاع زعامة القافلة من يد الرجال المسلمين ليتولاها أخدانهن ويتولينها هن. مساواة بين الرجل والمرأة، وديمقراطية تطرح الدين جانبا، وقانون متحول لا يقبضه ثابت عتيق عن السير في خط التقدم في ذيل القافلة الدوابية الزعيمة.
(..)
في غريزة المرأة انصباب عاطفي على الرجل. تريد إلفات انتباهه بأي وسيلة، والإحراز على إعجابه، واستلاب عقله، وأسره في حبائلها. متى لم يُهذب وازعُ الدين الغريزة النسـوية، ومتى لم تجد المرأة سعادتها الجسدية في واحد -وهي لا تجد أو تدينَ بشرع الله- فالباب مفتوح على عالم الصراع بين الرجال والنساء على المال والجمال وكل مظاهر زينة الدنيا. والغلبة في الحلبة الصراعية مهما كان دهاء المرأة وأصباغها ومكرها وثقافتها ودبلوماتها هي للرجل بوسيلة القانون، فإن منعه النضال من وسيلته هذه فضعف المرأة النفسي وسيلة جاهزة.
مساواة وهمية مع نبذ الدين، أو النهوض الشمولي التربوي العلمي الاجتهادي الاقتصادي السياسي بالرجال المسلمين، والنساء المسلمات، وبالبيئة؟ هذا هو الاختيار الموضوع أمام المؤمنات والمؤمنين وأمام القوة الاقتحامية يجاهد في طليعتها المؤمنات فيما يليهن، ويجاهد المؤمنون فيما يليهم، وتلتقي الجهود لدحض الباطل وإحقاق الحق.
المسار الوهمي في خط الدوابية متحولات لا ثبوت لها: فكل ما انبثق عنه الخيال، وحبذته أرقام الاستطلاع الشعبي، وجنده الإشهار، وحسنه الشيطان فهو التقدم والحضارة.
ولنا في إسلامنا لله ربنا ثوابت الإيمان به والاعتصام بسنة نبيه، ثم مرونة الاجتهاد. دوابٌّ هائمة على وجهها لا تدري لم خُلقتْ، أيجمل بعقل بشري الاقتناع بمُسَلَّماتها، أم يليق بإنسان يحترم إنسانيته أن يغمض العين عن رزاياها؟
من ثوابتنا الشرعية في الزواج الكفاءة بين الزوجين. عَلاَم يُقاس هذا التكافؤ؟ وبأي معيار يعير؟ إن وضعنا القرآن على الرف، والسنة محفوظة مصونة في كتبها، ونظرنا إلى واقعنا الحي بأعين الأموات، ويئسنا من طرد الرواسب الجاهلية فينا، وعجزنا عن إصلاح ما تفسده، فإن معايير الكفاءة تكون هي المال والجاه، يُصْهِر الولي بابنته الصغيرة إلى كبير القوم ممن له مال وجاه، وتسعى هي إلى المال والجاه، ويسوقها أهلها إلى القبر الزوجي تسكنه ريثما يُساق الثري الهرم إلى قبره فترث الأموال والضياع.
أما إذا قرأنا القرآن، وتَمَعَّنَّا السنة، ووضعنا كفتي المعادلة والكفاءة الزوجية في ميزانٍ مثاقيله وصنوجه تزن قِيم الدنيا والآخرة فإن معايير الدنيا تسقط، وتخلد معايير الآخرة في حسابنا كما هي خالدة عند الله. وعندئذ يكون زواج النبي صلى الله عليه وسلم الكهل بعائشة الفتية فوزا خالصا لعائشة، فوزا أبديا لا وزن معه لما تتخيله البَدَنيات الدنياويات من ضياع سعادتها الدنيوية. وكذلك كل صالح من المؤمنين يتزوج صالحة من المؤمنات، يسقط معيار التفاوت في السن والمال والجاه، وينتصر معيار السعادة الأبدية إن غفر الله لهما ورضي عنهما فكانت زوجه وكان زوجها في الجنة.
معيار التكافؤ الزواجي في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطبَ إليكم من ترضون دينه وخُلقه فزوجوه. إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض». أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه. ونرجع إن شاء الله إلى الموضوع في فصل لاحق.
(…)
عبد السلام ياسين، كتاب “تنوير المومنات”، ج 1، ص 173 – 179 على موسوعة سراج.