المؤمنات وحب اللهو

Cover Image for المؤمنات وحب اللهو
نشر بتاريخ

روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقف لها لتتفرج على الحبشة وهم يلعبون في المسجد ويزْفنون (أي يرقصون)، كان خدها على خده. وكان يشجع الأحباش يقول: «دونَكم يا بني أرفدة!». وفي حديث رواه عنها الإمام أحمد أنه صلى الله عليه و سلم قال عند ذلك: «لِتعلـمَ يهود أن في ديننا فُسحة».

هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا قال. مؤمنة هي أم المؤمنين ونموذج الصالحات كانت تحب اللهو في فجر شبابها فصبر لها الزوج الحنون والرسول الرؤوف الرحيم حتى شبعت وملّت من الفرجة. وكانت تأتي إليها صويحباتها ليلعبن معها. وسابقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، ثم سابقها مرة أخرى فسبقها وقال: «هذه بتلك!».

ما هي الفسحة التي في ديننا؟ ما هي الحدود الشرعيـة لهذا الفضاء الفسيح؟

روى الترمذي أن الصحابة قالوا: يا رسول الله! إنك لتداعبنا! قال: «إني لا أقول إلا حقا». داعب صلى الله عليه وسلم امرأة سألته أن يعطيها بعيرا تركبه، فقال: «أحملك على ولد الناقة!» فلما تعجبت ما تصنع بولد الناقة قال لها: «وهل تلد الإبلَ إلا النوق!» وقال لامرأة: زوجك الذي في عينه بياض؟ قالت: عَقْرَى! (كلمة تعجب واستغراب مما تألف النساء قوله: مثل يا ويلي!). فقال لها الحبيب صلى الله عليه وسلم: «وهل من عين إلا وفيها بياض!». وروت أمنا عائشة أن عجوزا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تدخل الجنة عجوز!» فقالت: وما لَهنَّ! خافت المسكينة أن تكون محرومة. فقال لها: أما تقرئين القرآن: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَابا لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ؟ [سورة الواقعة، 40-37].

ما هي حدود الشرع في الترويح عن النفس؟ فسيحة هي بشهادة من له الشهادة.

[…]

ما هي حدود الفسحة، وحدود الفن الإسلامي البديل الذي يباري الشيطنة الموسوِسة الطاغية المستبدة بسمع الإنسان وبصره ودماغه ويديه ورجليه ودمه وعروقه، تحركه حركة جنونية، وتخلُب لبه وتأسِر نفسه؟

البديل الإسلامي في ميدان الفنون لابد منه. ودَرْءُ المفسدة الأكبر بالمفسدة الأصغر قاعدة أصولية متينة. والإطار غير ما عرفه فقهاؤنا الأقدمون. نموت إن بتنا ننظر إلى الدين بأعين الموتى، ونفكر بعقولهم، وهم رحمهم الله لفتوا نظرنا إلى أن الفتوى تتغير باعتبار الزمان والمكان والأحوال. والمسار التاريخي ليس قطعة خبز نقطعها بالسكين الحادة، هذا مضى وهذا مستأنف.

تُلتَمس للضعيف رخصة، ويُلتمس للضرورات مخرج.

وتعمل التربية عملها. أستغفر الله، بل يقذف الله نور الإيمان في قلوب عباده. ويترعرع الإيمان في قلب المؤمنة التي كانت تحب اللهو وتحرص عليه، فيطرد حب الله حب اللهو، وتنْعَتِقُ الروح من حبائل الهوى، ويصبح سماع الأنبياء والصديقين أشرف ما تتحلى به الأذن ويَستشرف إليه القلب. سماع الأنبياء القرآن، يتغنى به المؤمنون والمؤمنات، فتسمو به المشاعر، وتتصعد العواطف.

ما رأي المؤمنات والمؤمنين في سماع يأذن له الله رب العزة ويستمع إليه؟ روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أذِنَ الله لشيء ما أذِنَ لنبِيٍّ أن يتغنى بالقرآن». أذِنَ أذَنا بمعنى استَمَع. وعند البخاري: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن». وروى أبو داود والنسائي عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «زينوا القرآن بأصواتكم».

القرآن كلام الله خير ما تغنى به المؤمنون والمؤمنات واستغنوا به. أستغفر الله، فإن مقارنة كلام الله بغيره ولو بالتفضيل زلة قلم.

إن للروح تطلعا إلى الجمال المطلق وهو الله تعالى. تحن الروح إلى أصلها في قربه. أما الفِطَر السليمة فأشواقها إلى ربها ترفعها ولو بعد فتَراتِ حب اللهو إلى مقامات الإحسان، فيصبح كلام الله بَلْسَمَ حياتها وربيعَ قلبها. وأما الفِطَرُ المطبوع على قلوبها فيتكسر ذلك التطلع الفطري فيها إلى الجمال على صخور قسوة القلب. لا يكاد يرتفع قليلا حتى تقتنصه الغرائز، وتجتذبه الشهوات، وتأسره النزوات، فإذا هو في قبضة الفن الماجن.

تطلّع سماوي أفقه القرآن، وغذاؤه القرآن، وسماعه القرآن، وطربه القرآن.

ذاك هو البديل الإحساني لمضمون الفنون الأرضية الغارقة في حَمْأة التراب المغرقة فيها. ولئن كان لعامة المسلمين ممن تغلب عليهم حاجات الجسم وضرورات العيش مندوحة في التسلي بأناشيد وأهازيج، فإن الأنشودة الخالدة المقدسة عند المؤمنات والمؤمنين هي تلك التي يناجون بها ربهم سبع عشرة مرة في اليوم والليلة فرضا، وما شاء الله بعد ذلك نفلا: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْـمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْـمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.

عبد السلام ياسين، كتاب “تنوير المومنات”، ج 1، ص 167 – 172 على موسوعة سراج.