المؤمنة وطلب الكمال العلمي في المنهاج النبوي

Cover Image for المؤمنة وطلب الكمال العلمي في المنهاج النبوي
نشر بتاريخ

ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا من أمور الدنيا والآخرة إلا وبيّنه ووضحه لصحبه الكرام، صحابة وصحابيات سمعوا وأطاعوا، احتاطوا لدينهم وتورعوا، واغتنموا وجوده بينهم صلوات ربي وسلامه عليه فسألوا وفهموا، ثم تشوفوا لأغلى المقامات فما خابوا ولا خسئوا.

كانوا الصحابة، ونكون الإخوة، إن بنينا كما بنوا، إن سعينا كما سعوا، إن نحن سرنا على منهاجه القويم رجالا ونساء كما سار الأعلام النجوم رضوان الله عليهم.

وما ترك الله هذه الأمة بعد الرسول المجتبى دون علماء، ورثة الأنبياء وأئمة مجددين لأمر هذا الدين العظيم، يحملون همّ العباد، يربطونهم بالله وبمنهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ “إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا” (1).

علم موروث وإمامة كان للأستاذ عبد السلام ياسين الحظ الوافر منها، فقد عمل جاهدا رحمه الله تعالى على إحياء منهاج نبينا الكريم، وتوضيحه للمتعطشين لفهم السيرة النبوية، وللراغبين في تقديم برهان صدق على محبته صلى الله عليه وسلم، الطالبين حقا اتباعه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والفوز برضا الله والقرب منه سبحانه وتعالى في الآخرة. مستندا إلى ما جاء في الآية الكريمة من نذارة وبشارة: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (2).

إنذار وبشرى لعباد الله جميعا؛ ذكورا وإناثا، فالمرأة غير مستثناة من التكاليف الشرعية التي جاء بها الخطاب القرآني، يعمها ويشملها ما يعم الرجل، كل حسب خصوصياته.

ولها الحق كأمة لله أن تحارب الجهل بالعلم والغفلة باليقظة والبعد بالتوبة والإنابة، وتحارب الغوص في فتن الدنيا بالتهمم بمصيرها الأخروي وسلوكها إلى الله، لها الحق أن تكون لها قضية مع ربها.

فجاء كتاب تنوير المومنات، الذي ألفه الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله أواخر القرن الماضي، وسطا بين التيارين المتطرفين اللذين ضاعت وحارت بينهما المرأة.

جاء فيصلا بين رياح التغريب التي تكرّهها في الإسلام باسم الانفتاح والحرية، وبين رياح التقليد والفقه المنحبس الذي يرجع بها إلى الجاهلية الأولى، ويعتبرها فتنة وعورة ليس لها من الحقوق إلا أن تحبس في بيتها.

“فلما بلغ الإفساد التغريبي أشده، وبرزت الدعوة الإسلامية، مالت على التبرج وميوعة المرأة وتمييعها تشديدا معاكسا، مستندة في ذلك على أضيق التأويلات الفقهية وأعسر المذاهب في حق المرأة، حتى لم يبق للمؤمنات متنفس بين ميوعة أولئك وتشديد هؤلاء” (3).

وعلى خلاف الكتب التي جاءت بقراءات ضيقة للشريعة الإسلامية، والتي حصرت قضية المرأة في اجتهادات فقهية هضمت حقوقها، جاء كتاب تنوير المومنات بنظرة شمولية، يفتح أمام المرأة باب الغاية الإحسانية إلى جانب الغاية الاستخلافية العدلية، لتقتفي آثار الصحابيات الجليلات، الصادقات، التائبات، الذاكرات، الصابرات، المواسيات، العالمات المعلمات، المربيات، الداعيات إلى الله، المجاهدات في سبيله، المسلمات، المؤمنات، المحسنات.

وتستجيب لنداء ربها ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (4)،  فتساهم في عملية التغيير الشامل؛ تغير حالها، فتقوي إيمانها وتبني ذاتها، وتشارك أخاها الرجل في صناعة المستقبل وتغيير حال الأمة، تربي وتعبئ الأجيال القوية المجاهدة.

استجابة باعثها الإيمان وسلاحها وقوامها العلم النافع دنيا وآخرة، جاء في الحديث الشريف: “العلم إمام العمل (5).

علم تطلبه المومنة كاملا غير منقوص. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “العلم علمان: علم بالله، وبغيب الله، وبرسل الله، وبكتب الله، وملائكة الله، وقدر الله، ومصير الإنسان في الدار الآخرة إلى الله. وعلم آخر عن كون الله، وخلق الله، وما أودعه الله في أرضه وسمائه من أسرار، وما رتب سبحانه من أسباب، وما سخر سبحانه للإنسان تسخيرا طبيعيا، وما جعل لتسخيره أسبابا على الإنسان أن يُرادف التجارب، ويجمع المعارف، ويَخترع المناهج، ويصطنع الآلات لتوفيرها” (6).

علوم كونية ومعارف ضرورية آلتها العقل، تقبل عليها المومنة إلى جانب العلم القلبي؛ العلم بالله وبغيب الله.

علوم محتكرة في بلاد المتعلمين تجاهد المومنة لاكتسابها إلى جانب علم الآخرة.

علوم الدين والدنيا، تسعى المومنة لتحصيلها كاملة كمالا حقيقيا لا وهميا حين تطرح عنها عباءة الكبر والخجل، وتربطها بإمام العلوم ورائدها؛ علم الوحي، علم القرآن الكريم.

“الكمال العلمي في طلب علم الوحي ليكون إماما وسيدا ومرشدا لعلوم الكون، وليكون السعي إلى تحصيله جهادا، ولتكون المشقة والصبر على امتلاكه وسيلة وطريقا إلى الجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة” (7).

كمال
علمي تحقق به المومنة التوازن بين الحقوق والواجبات الشخصية والدعوية، فتنخرط في مجال التعليم والاجتهاد، تتعلم وتجتهد لتعلم الناشئة، فهناك ثغرة لا يسدها إلا المومنات وفقه ما له سواهن كما قال الإمام رحمه الله، و تحيى بالتربية والعلم لتحيي سنة الله في الأرض.

“على المومنات اللاتي حباهن الله بالذهن الوقاد والصبر على التعلم وعلى متابعة التعلم من المهد إلى اللحد أن يتخصصن في أداء الفرض الكفائي في التعليم العام بما لا يتناقض مع فرضهن العيني في تربية بناتهن وأبنائهن في البيت” (8).

هكذا وجّه وأنصف الإمام عبد السلام ياسين في كتاب “تنوير المومنات”المرأة، بأسلوبه الرباني، ونوّر لها عقبات الاقتحام ليكون علمها علم خطوة، جامعا لمصلحة جامعة، تتقرب به إلى الله، وترفع همتها إلى أن تصبح مؤمنة فاعلة في مجتمعها، تنهض بحالها وحال الأمة ليخرج الجميع من الواقع البئيس إلى مستقبل مشرق ومشرف.

رحم الله تعالى الإمام عبد السلام ياسين، حين أوصى بالخصال العشر قبل وفاته، فقال: “وأوصي بطلب العلم، العلم الضَّامنِ سَعادَة آخرةِ كل فرد فرد، وأوصي بطلب العلوم الكونية الضامنة قوة الأمة، تبنيها قبل السواعد القوية والأموال الرشيدة عقولُ مُنَّظَّمة عقول منظِّمةٌ صانعة مخترعة” (9).


(1) عبد السلام ياسين، “المنهاج النبوي”، ص 30. والحديث رواه أبو داود والبيهقي والحاكم بسند صحيح.

(2) الآية 40 من سورة غافر.

(3) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ص 39، ج 1.

(4) الآية 24 من سورة الأنفال.

(5) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ص 67، ج 2.

(6) نفسه، ص 66.

(7) نفسه، ص 70.

(8) نفسه، ص 68.

(9) مقتطف من وصية الإمام عبد السلام ياسين.