تشرفت بحضور ندوة ثقافية حافلة شارك فيه ثلة من الدكاترة الأجلاء تحت عنوان “المثقف المغربي وأسئلة الهوية”، ولما لم يتسع الوقت للمطارحة والمناقشة وتقليب النظر وتعميق النقاش، آثرت أن أنقل موضوع الندوة للنقاش العمومي لما تكتسيه القضية من أهمية بالغة عسى أن أستثير بعضا ممن حضروا الندوة أو كافة من يعنيهم الموضوع لنوع من النقاش الهادئ والرصين والمثمر، وكان من بين التساؤلات الهامة التي شدت انتباهي إليها ما هو موقف الأستاذ عبد السلام ياسين من الثقافة؟ وأين تتموقع الثقافة في مشروعه التغييري؟ وما نظرته إلى المثقف وماهي وظيفته؟ وكيف يمكن تصنيفه؟ وما موقعه من مشروعه التغييري؟ وإلى أي حد يمكن للمثقف الإسهام في حفظ الهوية الإسلامية عموما والمغربية على وجه الخصوص؟ وكيف يمكنه الدفاع عن الخصوصية في مواجهة طوفان العولمة والتنميط الثقافي؟
وسأحاول من خلال هذا المقال المقتضب الذي أنشره في ثلاثة أجزاء 1-الثقافة 2-المثقف 3-الهوية، ملامسة بعض من جوانب الموضوع ملامسة سريعة ومركزة، سائلا المولى عزو جل أن يجود علينا بفسحة من الزمن لمزيد من التفصيل.
من المعروف أن الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى من المفكرين الحذرين جدا في التعامل مع المصطلحات والمفاهيم لهذا نجده ابتدع جهازا مفاهيميا “مفهوميا” خاصا اجتهد في تأصيله وتعليله وتخليصه وتحميله، إما من خلال الابتكار أو النحت أو “إعادة التحميل” بتخليص بعض المفاهيم بدلالاتها واصطلاحها من حمولاتها الفكرية والتاريخية، حرصا منه على الوضوح ومخافة من الخلط فهو مثلا حين يتحدث عن مفهوم الحضارة يقول: «أستعمل «عمران» ولا أستعمل «حضارة» حرصا على أن لا تختلط المفاهيم على قاصدين مسلمين سِكَّتُهم إلى المستقبل الدنيوي والأخروي يجب أن تكون واضحة”. وهذه الكلمة تتكرر كثيرا لتنبيه القارئ في مناسبات عديدة إلى تحفظ الأستاذ رحمه الله على توظيف مفهوم أو مصطلح ما وأضرب لذلك أمثلة لا حصرا: فهو يستعمل القومة بدل الثورة “أستعمل أحيانا عبارة «الثورة الإسلامية» قاصدا التغيير اللازم لبعث الإسلام في المجتمع وإقامته على قواعد الإسلام ومنها العدل. ولي عبارة أشتقها من منابع إسلامية هي «القومة الإسلامية» أو حين استعمال بعض الالفاظ كالإقطاعية أو الطبقية” أستعمل مثل هذه الألفاظ بدلالتها الوقتية العامة” أو حين الحديث عن الحكومة الإسلامية” أستعمل الألفاظ المستحدثة مكرها”.
هذا الحذر وهذه الصرامة المنهجية خلال مرحلة التأسيس، نجد بإزائها نوعا من التسامح المنبه عليه لـ”ضرورة تواصلية” أو “عادة استعمالية” أملتها ظروف مرحلة ما أو تطلبها مفهوم شامل شائع، أو لإدراكه وجود صعوبات علمية مرتبطة بالترجمة والتبييء حين يقول صراحة: “ولن نستطيع دائما أن نقوم بالترجمة المعاكسة”، ففي سياق حديثه عن الدمج المطلوب -ونستعمل الكلمة ريثما نَصل إلى تأصيل المفهوم-، بل ويعتبر حتى كلمة مفهوم كلمة مترجمة عند المثقفين المعاصرين تدخل في النسيج الفكري لخطاب الفلاسفة والأدباء والاجتماعيين وسائر تلك الأصناف.
1- الثقـــــــــافــــــــــة
من هذا المنطلق نجد أن الأستاذ رحمه الله يتساهل مع مفاهيم معينة ويتشدد كثيرا في القبول بأخرى ويحط عليها حطا كبيرا، وعيا منه بخطورتها على المشروع تشويشا واستلابا، ومن ضمنها كلمة الثقافة ففي أحد حواراته سئل عن حساسيته من لفظ الثقافة، وما هو مبرر هذا النوع من الحساسية، فاعتبر أن الخطورة تأتي من كون الثقافة مفهوما ملتبسا ومهيمنا يعتبر الإسلام جزءا لا كلا وفرعا لا أصلا ويصنفه في درجة واحدة مع ما أنتجه العقل الإنساني، إضافة إلى مزاحمتها للفظ القرآني وهذا مبعث الخوف والتخوف “الذي أخاف منه وهي أن تكون الثقافة وهي عبارة مستوردة، عبارة أتتنا من الخارج، وهي ترجمة لكلمة Kultur الألمانية أو Culture الإنجليزية، عندما نجلس مع أغلب المثقفين نجد أن المثقف معناه هو رجل قرأ كل شيء، واطلع على كل شيء أنتجه الفكر البشري، ومن جملته القرآن ومن جملته الإسلام. والإسلام ينطوي في ذهن هذا المثقف في ركن ضيق باعتباره ثقافة من الثقافات، وإفرازا فكريا، وحدثا تاريخيا والسلام” ويزيد الرفض عند الأستاذ رحمه الله إذا تم الحديث عن “الثقافة الإسلامية”، “فإذا استعملنا لفظ «ثقافة» وأضفنا إليها «إسلام» وقعنا في الخلط المفهومي، لأن «الثقافة» جمع له عناصره، وليس منها كلمة «إسلام»” حيث يعتبر أن لهذه الكلمات الواردة مع الغزو الاستعماري فخفخة وطنينا وبريقا يجعلها تهدد تداول المفهوم القرآني وتزحزحه، فهي “تغزو الألفاظ القرآنية وتزحزح المفاهيم الإسلامية لتحل محلها في الخطاب دون أن يشعر المتكلم المنساق مع العادة الاستعمالية” وعلى العموم يمكن أن أحصر تحفظات ومآخذ الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى على مفهوم الثقافة في ثلاثة أمور:
1-مفهوم مغالب إحلالي
يرى بعضهم أن لا مشاحة في اللفظ ما دام اللفظ يؤدي المعنى، وهو رأي لا يدرك خطورة المفاهيم في تشكيل الوعي أو تزييفه، لهذا فليس مستغربا أن نجد أن الإسلام ينبه إلى هذه الخطورة والأهمية، وسنضرب مثالين على ذلك أولهما قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ والمثال الثاني جاء في الحديث الصحيح أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَالَ: “لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأعْرَابُ علَى اسْمِ صَلَاتِكُمُ المَغْرِبِ” وفي روايات أخرى “لا يغلِبنَّكم الأعرابُ على اسمِ صلاتِكم فإنها العشاءُ إنما يدعونَها العتمةَ لإعتامِهم بالإبلِ لحلابِها” و“لَا تَغْلِبَنَّكُمُ الأعْرَابُ علَى اسْمِ صَلَاتِكُمُ العِشَاءِ، فإنَّهَا في كِتَابِ اللهِ العِشَاءُ، وإنَّهَا تُعْتِمُ بحِلَابِ الإبِلِ” والمقصود بأنها في كتاب الله أن القرآن سماها عشاء في قَولِه تَعالى: وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ[النور: 58] ولا ينبغي إحلال مصطلح أو لفظ آخر مكان اللفظ القرآني أو تغليبه. كانت الأعراب تسمي صلاة المغرب عشاء وصلاة العشاء عتمة، وراعنا لغة هي انظرنا، لكن اللفظ كان يكتسي دلالة أخرى عند الأعراب واليهود، بمعنى أنه يحمل حمولة دلالية أخرى لغوية وحضارية وقيما جاهلية، لهذا فصاحب المنهاج النبوي رحمه الله، المستهدي بنور الوحي والنبوة، يصر على المفاصلة والمزايلة ومخالفة النماذج الحضارية على كل المستويات “فلا يتم الزيال بمفارقة الشرك والنفاق حتى نزايل النموذج الكافر فلا نتشبه به في فكره ولا خلقه ولا عاداته”، فالثقافة تقدم نفسها صراحة وإيحاء بديلا عن الدين، تحل محله وتشمله بجزء من تسامحها إن أراد المثقف حسب خلفيته وموقعه.
2- مفهوم غامض ملتبس
يرى الأستاذ ياسين رحمه الله تعالى أن لفظ الثقافة غامض وملتبس، “تكسبه ضبابيتُه قداسة المجهول المعبود”، وهو غموض والتباس زئبقي متعمد يأتي من عدد التعريفات غير المحدود، الذي يفوق المئات تبعا للحقول المعرفية والخلفيات الاجتماعية والحضارية والانتماءات الفكرية والسياسية فـ”ما من مذهب فلسفي، ومشرب في علوم الاجتماع، ومدرسة من مدارس «علم النفس»، وسرب من أسراب «الملتزمين» السياسيين، وكتابة من كتابات المفكرين إلا وله تعريف خاص بما هي الثقافة والمثقف. عشرات التعريفات لهذا المفهوم الحديث في خطاب الغرب”، وأيضا من إلباسه مسوحا من القداسة فـ”الثقافة كلمة مقدسة، والمثقف وصف شرف، يعلي ويغلي من شأن المثقف، وقداسة الثقافة أن المفهوم المتعدد التعريفات كما تتعدد آلهة الهند وأوثان البراهمة فضفاض رضراض” وأخيرا من سحر المفهوم وإضفاء نوع من الهيبة عليه، فالمثقف يقدم في معابد الثقافة على هيئة كاهن أو وثن معبود يستلب التابع ويخضعه ويسيطر عليه. هذا الغموض والالتباس يمنح الثقافة والمثقفين قدسية ومهابة وسلطة معرفية تهيئ المجتمع للقبول بقيادتهم وحاكميتهم، فهم يجعلون أنفسهم “إكليروسا ثقافيا” يحول بين العامة والمعرفة من خلال تأويل وفهم نصوصها وطلاسمها أو يتوسط بينها وبين مصادر المعرفة وهياكلها ومحافلها، فهو الذي يمنح صفة الترقي العلمي والأكاديمي والمعرفي بما يشبه صكوك الغفران المعرفي، فهو «غموض غرفة الساحر يضفي على السحر هيبة، ويفزع الداخل حذرا وريبة. الطاعن في قدرة الساحر على خطر.
3-مفهوم لاديني متمرد
إن من أكبر مآخذ الأستاذ ياسين رحمه الله على الثقافة كفرها ولائكيتها وتمردها على الدين وإلحادها بالغيب وإقصاءها للوحي، فهي تتعالى على الدين وتلغيه أو تعترف به فرعا قاصرا من فروع إعمال العقل، أو تقبل به في إطار التسامح الليبرالي أو تصنيفات الميتافزيقا، فالثقافة لا مكان فيها للغيب أو لذكر الله أو للحديث عن الآخرة أو عن معنى الحياة لا كيفها، ونقف مع الأستاذ رحمه الله وقفة طويلة لنستنطق كلمة “الثقافة”، هذا المصطلح الذي ترددهُ الألسنة ما معناه؟ هذا اللفظ المبتذل الذي يفكك الدماغ ويركبه، ويوجه الفكر والسلوك، ما هو؟ مفهوم له عشرات التعريفات تختلف من مدرسة اجتماعية أو إناسية أو إيديولوجية إلى أخرى، فالفرنسيون يحصرونه في الإبداع الأدبي والفني، في الإعجاب بالتراث المكتوب أو المرسوم أو المنحوت، في العلم النافع أو غير النافع، في إنتاج الصور والشخصيات، في تذوق التعبير الرقيق والصياغة الرشيقة. والأنجلوسكسونيون يربطونه بأسلوب عيش معين، بطابع أنسي محدد، بمهارة عملية، بالفن والمنظر، بحصة الشاي اليومية. والألمان يؤمنون بثقافة تتجاور فيها الأسطورة التاريخية والفعالية العملية، وتتلازم فيها الحضارة والقوة والرمز، ويولد فيها الانتماء إلى الأمة الجرمانية الشعور بالتفوق على الآخرين. والمحصلة الجامعة عند الجميع أن لا حَديث عن الله ولا عن مغزى الحياة ولا تفكير في المصير!”باختصار، فأنت تصبح مثقفا حين تجمع ركاما من المعارف المتناثرة، وتتبرمج لاستهلاك المزيد من المنتوج الثقافي، أما مغزى حياتك، أما مصيرك، فلا خبر لدى الثقافة عنه”.