المرأة بين الواقع والمطلوب

Cover Image for المرأة بين الواقع والمطلوب
نشر بتاريخ

– واقع المرأة في الجاهلية

– إعادة الاعتبار للمرأة في الإسلام

– انقلاب بني أمية على إرادة الأمة

– المرأة عند الأمم الأخرى

– المرأة بين داعي الإيمان وداعي الشيطان

– كيف السبيل إلى تحرير المرأة؟

في الحديث عن قضية المرأة وسبل النهوض بها لتنهض بأمتها لابد من عرض سريع لوضعية المرأة عبر التاريخ.

واقع المرأة في الجاهلية

إِنْ كنا في الجاهلية لانَعُدُّ النساء شيئا ــ في رواية لا نعد للنساء أمر ــ حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم ما قسم) هذا القول لسيدنا عمر بن الخطاب يُلَخِّص لنا حالة الدونية والتشييئ التي كانت المرأة تحياها: لا حقَّ لها في الإِرث بل هي تُورَثُ كالمتاع وتقف موقفا سلبيا مستسلما أمام جريمة وَأْدِ ابنتها حيّةً: لا فعلَ لها ولا رأيَ ولا مشورة.

إعادة الاعتبار للمرأة في ظل الإسلام

اعتبر الإسلام أن المرأة إنسان كامل الإنسانية ومسؤولة كالرجل تماما: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مومن فلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طيبةً ولَنَجْزِيَنَّهُم أجرَهُم بِأَحْسَنِ ما كانوا يعملون سورة النحل. المعيار هو صلاح العمل وصوابه لا الجنس، وللرجل والمرأة الجزاء العادل على ما قدما في دنياهما حسناً كان أمْ سيئاً.

خاطب الله جل وعلا نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يُبايِعْنك على ألاّ يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين بِبُهتانٍ يَفْترينَهُ بين أيْديهِنَّ وأرْجُلِهِنَّ َولا يعْصينَكَ في معروف فبايِعْهُنَّ واستغفر لهنَّ اللهَ إن اللهَ غفور رحيم سورة الممتحنة. جريمة قتل البنت كان يرتكبها الرجل الجاهلي ولكن الإسلام اعتبر سكوت المرأة عن هذه الجريمة مشاركة فيها فكان من ضِمْنِ ما تتعهَّدُ به وهي تُسلمُ لرب العالمين: ألاَّ تقتل أولادَها. يُعلمها أن تكونَ مسؤولةً، مُبادِرَةً، فاعِلةً في المجتمع لا فرق في ذلك بينها وبين الرجل: “كلُّ نفسٍ من بني آدَمَ سيِّد، فالرجل سيدُ أهله، والمرأة سيدةُ بيتها” صححه الألباني.

بالغ الإسلام في تكريم المرأة فاعتبر مَن يُهينها لئيما ساقِطَ المُروءة:” لا يُكرمهن إلا كريم ولا يُهينُهُنَّ إلا لئيم”. هكذا نقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه من ذلك المستوى الهابط الذي يتحدث عنه عمر بن الخطاب في الحديث الآنف الذكر، وتدرج عليه الصلاة والسلام في تربيتهم بالحكمة والرفق حتى خَفَّتْ عندهم النزعة الذكورية السائدة في المجتمع العربي كما في غيره في ذلك الوقت، فتحررت المرأة ـ كما تحرر الرجل من العبودية لغير الله، وسمَت همتها في طلب ما عند الله، فبرزت أسماء لنساء مجاهدات هاجرن الأهل والديار في سبيل دينهن، وجاهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجبهات الأمامية والخلفية ونالت بعضهن شرفَ الشهادة في سبيل الله.

انقلاب بني أمية على إرادة الأمة

كان انقضاض بني أمية على الحكم انكسارا كبيرا لتاريخ الأمة، يقول عليه الصلاة والسلام:” لَتُنْقَضَنَّ عُرى الإسلام عُرْوَةً عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولُهن الحكم وآخرهن الصلاة”.

هذا الانكسار التاريخي كانت له آثار سلبية وكارثية على كل مظاهر حياة المسلمين: ساد حكم الفرد والتسلط الذي يبدو واضحا في قول عبد الملك بن مروان: لن أُداويَ أمراضَ هذه الأمة إلاّ بالسيف)، وتراجعت الحريات عما كانت عليه في عهد النبوة والخلافة الراشدة إلى درجة أنْ يستبيح يزيد دماء وأعراض المسلمين في المدينة المنورة ثلاثة أيام. وآثر العلماء السكوت على هذا الخَرْقِ الكبير في الإسلام حفاظاً منهم على هيبة الدولة أمام العدو الخارجي المتربص. تزامن هذا مع دخول أجناس وأقوام في الإسلام لم يتشرّبوا بعد التربية الربانية النورانية مِما يُشكِّل خطراً على النسيج الاجتماعي للأمة. أمام هذا الطوفان الزاحف لم يجدِ العلماء بُداًّ من تبَنّي أَشَدِّ الأحكام في موضوع المرأة بدعوى سَدِّ الذرائع أي مارس المجتمع عملية إسقاط على المرأة، فالإقصاء والتهميش والظلم وانتفاء الحوار هو السلوك المُعتَمَد بين مختلف طبقات وشرائح المجتمع حسب التسلسل من أعلى سلطة إلى التي تليها. وعادت إلى الظهور بعض أخلاق الجاهلية التي اشتهرت بوَأْدِ البنت، كان وَأْدا حِسِّياًّ، أما ما وقع بعد ذلك فهو وَأْدُ معنوي، إِذِ اعتبرت المرأة عورةً يجب إخفاؤها، صوتها عورة، واسمها هو الآخر عورة، ساهم في هذا الوضع المزرى التعسف في فهم بعض النصوص بِبَتْرِها عن سياقها، ووضع أخرى كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم لمُسايرة واقع سياسي فُرِض على المسلمين، إلى أن حدثت الصدمة الثانية: الاستعمار.

المرأة عند الأمم الأخرى

عند اليهود: لعنة لأنها أغْوت آدم وتسببت في خروجه من الجنة.

عند اليونان: آلة لا يحق لها أن تكون مواطنا.

عند النصارى: رجس من عمل الشيطان، أمرُّ من الموت، والصالح أمام الله ينجو منها.

القديس ترتوليان: هي مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، ناقضة لنواميس الله، مُشوِّهة لصورة الله.

سنة 1805 أباح القانون الإنجليزي للرجل بيع زوجته فكانت النساء تُباع في أسواق العاصمة لندن

نتشه: الإنسان قتل الله

انتشار الظلم في أوروبا تحت شعار الحق الإلهي للملك بمباركة الكنيسة أدى إلى قيام الثورة الفرنسية تحت شعار: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)، إشارةً إلى التحالف المصلحي بين المؤسسة الملكية والكنيسة. نتج عن ذلك ظهور اللائكية وإبعاد الدين عن الحياة. وكان لفلسفة فرويد وداروين تأثيرا كبيرا في الفوضى الجنسية التي حدثت بعد ذلك إذ تمَّ إطلاق الحرية للغرائز دون قيد أو شرط. يُقَعِّدُ لذلك بعض رُوّاد عصر الأنوار فيقول سارتر: الله موجود أو غير موجود لا يهمني.

أفرزت هذه المنظومة الفكرية الإلحادية ثورة جنسية لا حدود لها استعبدت المرأة واختزلت دورها في المتعة الجسدية، المسلمون كان عندهم استعداد كامل لتقبل هذه المفاهيم بِسبب التّرَدّي الذي وجدهم عليه الاستعمار الأجنبي عندما هجم بخَيْله ورَجْلِه وهو ما سمّاهُ مالك بن نبي: القابلية للاستعمار

الانبهار بالغرب المتفوق أو نحلة الغالب كما يسميها ابن خلدون مع استلام الحكم في بلاد المسلمين من طرف نُخَب مُغَرَّبة قلبا وقالَباً جعلت المسلمين في حالة استلاب حضاري وتبعية كاملة للغرب ظهرت معها أصوات كثيرة لنساء ورجال تطالب بتحرير المرأة ــ المظلومة فعلا المحبوسة واقعا ــ على طريقة النموذج الغربي الإباحي الداعر. كيف نتجنب كِلا الفريقَيْن المخطئين: ظلم المرأة باسم الدين، وظلمها باسم التحرر الغربي؟! كيف ننصف المرأة كما أنصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا تلجَأَ إلى المنظومة القِيَمِية الغربية بحثا عن الإنصاف الذي لم تجده عند علماء دينها الذين يأبى بعضهم إلاّ التمسك بقراءات فقهية وضعها بشر لزمان ومكان غير زماننا ومكاننا مع أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال

المرأة بين داعي الإيمان وداعي الشيطان

المرأة المسلمة حائرة بين الخطاب التمييعيي الغربي الذي يقول ألاّ حرية ولا كرامة لها إلاّ بالانسلاخ عن هويتها ودينها والتبعية الكاملة للمنظومة الفكرية الغربية ولا خبرَ عن الله والآخرة، وبين الخطاب المتشدد المتطرف الذي يوشك أن يُلْغَيَ وجودها ويطمس شخصيتها ويركنها في ركن ضيق من الحياة. ولكنها لم تلبث في حيرتها و تيهها إلا قليلا حتى عادَت من جديد إلى دينها تستمع بقلبها إلى نداء ربها الذي يسمو بإرادتها وهمتها إلى طلب ما عند الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً، وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً، اختيار الآخرة هل يُفهَمُ منه أن ترضى المرأة بواقع ظالم مسلوبةُ فيه حقوقها، مُهدَرَةُ فيه كرامتها؟ كيف وقد علمنا ديننا أن نسعى إلى الأحسن دائما: إن اللهَ لا يُغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم، ووعد الله الأجرَ الجزيل لمن يبذل قُصارَ جهده في الإصلاح حتى أنه اعتبر شهيدا من مات وهو يطالب بحقه في حياة كريمة: قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ “

كيف السبيل إلى تحرير المرأة؟

الإيمان بالله وبالآخرة نقطة فاصلة تميز الخطاب الإيماني عن الخطاب الإلحادي الذي لا يؤمن بالحياة بعد الموت ولا باليوم الآخر، ففي ظل هذا التصور الأخير يكون استغلال كل فرصة ممكنة لاقتناص كل لذة متاحة هو الهدف والغاية. أمَا وأنَّ الأمر أعظم وأكبر وأشَدُّ وأخطر والقضية قضية يوم آخر، يوم يقوم الناس لرب العالمين فحساب وجزاء، فخلود في جحيم أو نعيم، فإن الأمرَ يختلف تماما ويفرض علينا شئنا أم أبينا مراجعة حساباتنا في علاقاتنا الاجتماعية وفي تصورنا لأداء المرأة داخل المجتمع.

تحرير المرأة، والرجل أيضا من العبودية لغير الله وتحرير إرادتهما في طلب ما عند الله لن يتمَّ إلاّ إذا استلهمنا النموذج النبوي في فعل وإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم فترضى المرأة بما وهبها ربها وأكرمها، وتدرك أن ما جاء من اختلاف في بعض الأحكام لا يعني الاختلاف في الطبيعة الإنسانية أو في الكرامة بين الجنسين أو المسؤولية والجزاء، وإنما هو اختلاف اقتضاه تنوع وظيفة كل من الرجل والمرأة في الحياة، فهو اختلاف تكامل لا اختلاف تَضاد.

ولا سبيل أمام الأمة اليوم للخروج من ورطتها الحضارية وانبطاحها أمام قِوى الاستكبار العالمي إلّا بتعبئة شاملة تتبوّأُ فيها المرأة المكانة التي وضعها فيها الإسلام، فهي لها في حياتها قضية، قضية مصيرها عند الله في الآخرة وقضية أمتها التي تعيش واقع الاستضعاف والهزيمة فتُحْسِن تنشئة أبنائها ليكونوا ذُخْرا لأمتها، وعملا صالحا ينفعها في آخرتها: “إذا مات آبن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتَفع به، أو ولد صالح يدعو له” رواه مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه، ثم هي تشارك مع أخواتها المؤمنات في إطار الحركة الإسلامية الواعدة في الدعوة إلى رحمة الإسلام، ورفق الإسلام، وعدل الإسلام.

عند الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري رحمها الله، يقول عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: “إن الدنيا حُلوةُ خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أولَ فتنة بني إسرائيل كانت في النساء”.

أذكر أول مرة سمعت فيها هذا الحديث وكان ذلك على لسان أحد العلماء، استنتج منه أنَّ المرأة فتنة كبيرة وشر مستطير تماما كقول الكنيسة قديما: “المرأة شر لابد منه” لست أدري لماذا يُصِرُّ بعضهم على ألاّ يفهموا كلام الله وكلام رسوله إلا مناهضا للمرأة متهما لها !

يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: زينَةٌ من الزينات هي المرأة، أعظمُها وأسبقُها. امتحان هي عسير لمن تجاوز حدود الله فيها فظلمها وهي الضعيفة، أو نَهَبَها وهي الجميلة، أو عبدَها وهي بشر) العدل ص286. نفهم إذاً أن فتنة المرأة للرجل وفتنة الرجل لها تدخل في إطار سنة الله في ابتلاء بعضنا ببعض في هذه الدنيا قال تعالى: ليبلُوَكم أيُّكُم أحسنُ عملاً صلاح العمل وحُسْنُه هو ما يحسم في الجزاء الأُخْرَوي لا الجنس ولا الحيثية الاجتماعية: كن مَنْ شِئتَ وكيف شئتَ لكنك في النهاية عبدُ لله، موقوفُ ومسؤولُ بين يَدَي الله.

بقدر ما يكون عند المرأة والرجل اليقين بالبعث والآخرة يعيشان حياة طيبة هنية في الدنيا مع التطلع للنعيم الخالد في الآخرة، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: المرأة الصالحة للرجل الصالح نعمة ما مثلُها نعمة: يتعاونان على دنياهما وأُخراهما.. طابت حياته وحياتها هنا لِماَ يعلمان من أنها عُبورُ إلى دار البقاء فيأخذان حظهما من نَعْمَةِ الدنيا دون أنْ يسْتعجِلا ما هو من شأنِ الآخرة: النعيمُ المُقيم) العدل. ص. 285

على أنّ تحرير المرأة لا يمكن أن يحصل إلا في إطار عملية تغيير شاملة للمجتمع يتمُّ معها إصلاح حقيقي سياسي واقتصادي وإصلاح الإدارة والقضاء، ومع ذلك تبقى المقاربة القانونية عاجزةً عن إيجاد حل لمظلومية المرأة إِنْ لمْ تصحَبْ هذه الإصلاحات تربية جامعة للإنسان ـ رجلا وامرأة ـ وتبنّي البُعد الإحساني والعدلي في علاقة المرأة بالرجل عِوضَ البُعد الصِّدامي في الغرب، كما لابد من تكاثف جهود كل المخلصين لتغيير واقع بئيس يَنوءُ بثقله الإنسان، رجلا وامرأة، ومحاولة إيجاد علاج من صميم ديننا لمآسي تنخر المجتمع تدفع ثمنها الأسرة المغربية وبالدرجة الأولى: المرأة والطفل.