وُضعت قضية المرأة في العالم منذ عقود كثيرة تحت المجهر وتعالت الأصوات الداعية لتمتيع المرأة بشتى حقوقها وتمكينها اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وأعقبت ذلك سجالات لم تنته بعد، واتخذت إجراءات على مستويات متعددة، نضالات الحركة النسائية العالمية شاهدة في التاريخ الحديث والمعاصر على الحيف والتمييز وكل أشكال العنف الذي تعرضت له المرأة، عقدت مؤتمرات واجتماعات عابرة للقارات، توجت بإفراز اتفاقيات ومعاهدات، هرعت لتوقيعها معظم دول العالم لتلميع واجهاتها الديموقراطية والسياسية تارة، وتارة أخرى لاستجداء رضى المنظمات الدولية والبنوك…
إلا أن المتفحص لواقع حال المرأة، يشاهد كيف أن وضعيتها ممرغة في أوحال واقع مظلم وظروف إنسانية متدنية على اختلاف أجناس النساء، واختلاف ألوانهن وأعراقهن… كل واحدة يُمارس عليها نوع من أنواع العنف بطريق أو بأخرى، حقوقها لا تتجاوز في أحسن الأحوال نصوصا خشبية شكلية، وشعار إنصاف المرأة وتمكينها تنمويا لا يعدو مجرد خطاب موسمي، يجعلها تعيش محصورة بين سنديان الشعارات البراقة الخادعة، وبين مطرقة واقع متردي على مستويات شتى.
يُعد العنف ضد النساء والفتيات أحد أكثر انتهاكات حقوق الإنسان انتشارا في العالم، حيث يمارس بشكل يومي مرارا وتكرارا في كافة أرجاء العالم، فواحدة من أصل ثلاث نساء تعرضت للعنف بأحد أشكاله في حياتها، هذا العنف المتعدد الأشكال، تبقى آثاره الخطيرة على المرأة، سواء من الناحية الجسدية والنفسية، أو الاقتصادية والاجتماعية، قصيرة أو طويلة المدى على النساء بمختلف أعمارهن، هذا العنف بدرجاته ومستوياته وصوره وآثاره، لم تنجو منها أي امرأة سواء في دول العالم المتقدم أو دول العالم النامي، سواء في دول تعيش الهدوء والسلم، أو دول تعيش حروبا وانتهاكات جسيمة أو مناطق النزاعات والحروب الأهلية، ولعل هذا العنف بهذه المناطق والدول الأكثر شراسة، يبرز الجريمة النكراء التي تمارس على النساء بصور الإبادة والتقتيل والتجويع والتهجير القسري، أمام صمت ونفاق المنتظم الدولي، وازدواجية المعايير.
المرأة الفلسطينية الغزاوية الكاشفة رقم واحد في العالم عن نفاق المنتظم الدولي، الذي لطالما تغنى بحقوق المرأة في الضفة الأخرى، حيث صيغت مواثيق دولية وقوانين لضمان حقوقها وإنصافها، والقضاء على كل أشكال التمييز ضدها، وحمايتها من كل المخاطر وما يهدد حياتها، منتظم وقف مكتوف الأيدي، أصم، أبكم، أعمى، أمام ما تعرضت له نساء غزة على مدار أكثر من سنتين من إبادة جماعية وحرب إنسانية الأبشع في التاريخ المعاصر. حيث تعرضت لجميع أشكال العنف وأخطره، تنوعت المظاهر وتنوعت معها الآلام والآثار؛ أم تستشهد رفقة جنينها، وأخرى يُقتل أطفالها بين يديها وأمام أعينها، عروس تتبخر أحلامها ويستشهد عريسها، طالبة أو تلميذة مُجدّة ضاعت دراستها وهٌدّمت مدرستها وتمزقت مذكرتها وتطايرت كل مخططاتها. جدة طاعنة في السن نُكٍّل بها وبأحفادها، وهجرت قسرا أكثر من مرة وجُوّعت واستشهد نصف أبنائها أو كلهم.
بكل هذه الآلام نحيي اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء في العالم، بين يدي المرأة الفلسطينية وهي بين شهيدة وأرملة، وأسيرة معذبة ومجوعة ومحاصرة… فالإحصائيات تكشف حجم العنف الكارثي الذي لحق النساء والفتيات بعد عامين من القصف والدمار والتجويع؛ إذ تشير بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إلى استشهاد ما يقارب 13 ألف امرأة، في حين وصل عدد الأرامل إلى 21.2 ألف امرأة، كما سجلت 12 ألف حالة إجهاض نتيجة الظروف القاسية من نقص الغذاء وغياب الرعاية الصحية، وتواجه حوالي 107 آلاف امرأة حامل ومرضع خطرا داهما على حياتهن في ظل نقص الغذاء والرعاية. ناهيك عن العنف الجسدي والنفسي والجنسي الذي تتعرض له الشريفات بفلسطين… فشهادة بعض الأسيرات المفرج عنهن مؤخرا، توثق أعنف المشاهد، حيث يصعب على العقل البشري السليم تقبلها؛ تفتيش عار مع تقييد الأيادي والأرجل وتعصيب العينين، ضرب وشتم والبقاء بالجوع لأيام، زنزانة رائحتها نتنة، أرض ممتلئة بمياه عادمة، فراش مبتل بمياه متسخة، لكن الأصعب بالنسبة للأسيرات عمليات التهديد الممنهجة بالاغتصاب وتوثيق العملية، بل تعدى ذلك للاغتصاب الفعلي، إذ وثق المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان قبل أيام قليلة خلال شهر نونبر 2025 أول شهادة لامرأة من غزة تعرضت لاغتصاب جماعي متكرر على أيدي جنود الاحتلال شمال القطاع، شهادة مرعبة وقاسية تصف جريمة حرب مكتملة الأركان الموصوفة، عملية وحشية تعرضت لها سيدة حرة لديها من العفة الكثير، فيها من الشرف والعزة ما إن وزع على نساء العالم لكفتهم، تُركت عارية لأيام عديدة مقيدة الأيدي، تمنت الموت على حد تعبيرها في كل لحظة على أن تمسها الأيادي الآثمة، كانت دورتها الشهرية شفيعا لها للسّماح لها بارتداء ملابسها!
لكن رغم بشاعة الحقيقة ظل العالم متفرجا، ترك المجروحة الذبيحة تتساءل: أليس الاغتصاب جريمة! أليس استباحة جسد المرأة جريمة! أين هي اتفاقيات مناهضة العنف؟؟!! أين حملات الحركات النسوية للدفاع عن النساء.
ما شهدته غزة بنسائها وفتياتها على وجه الخصوص عرى عن صورية المواثيق والمعاهدات الدولية، وزيف أسطوانة المنتظم الدولي حول إنصاف المرأة وحمايتها من المخاطر، وعلى وحشية الدول الرأسمالية الداعمة والمشاركة لهذه الحرب الهوجاء. كما أماط اللثام عن ضمير الأنظمة العربية وحكامها الغارقون في السبات والهوان، بتطبيعها وصمتها مشاركة في العدوان وكل أشكال العنف وعمليات الاغتصاب، ذنبها لا يقل ذنبا عن ذنب الكيان.
وكأن هذا العنف الدموي غير كاف، لتنال المرأة السودانية نصيبها من الموت والجوع والتشريد، ففي قلب النزاع، بين عنف الميليشيا المسلحة، ومشاهدة العالم معاناتها في صمت، تتصدر النساء والفتيات السودانيات مشهد المعاناة منذ الحرب المستعرة التي بدأت بالسودان منذ أبريل سنة 2023. إذ استخدم جسدها كساحة للصراع بالتجويع الممنهج، والاستغلال الجنسي بمختلف أشكاله على مرأى وسمع دولي وإقليمي مريب، حقائق مرعبة تسطر بالدم. وبينما تحيي الحركات النسائية حول العالم حملة 16 اليوم لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، ويصادف مرور 25 عاما على قرار مجلس الأمن 1325 بشأن المرأة والسلام والأمن، الذي أكد على ضرورة حماية النساء أثناء النزاعات المسلحة، تعيش المرأة السودانية انتهاكات ممنهجة جسيمة، وسط غياب آليات الحماية والمحاسبة. وبحسب بعض التقارير الأممية، تم تسجيل وتوثيق 1392 حالة عنف جنسي منذ بداية الحرب، قد يكون الرقم أكبر مع عدم دقة الإحصاءات.
استخدمت المليشيا الاغتصاب سلاحا لإذلال المجتمعات المحافظة ولإجبارهم على النزوح القسري من ديارهم؛ حيث يقدر 6.7 مليون شخص معرضون لخطر العنف القائم على النوع الاجتماعي في السودان (مصدر الأرقام موقع شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية annd.org). وتحتل النساء والفتيات الحصة الأكبر، إذ تتعرض اللاجئات والنازحات والمهاجرات قسرا للخطر بشكل خاص للانتهاكات الجنسية، كما يواجهن أخطارا مضاعفة من كافة أشكال العنف، من التجويع والترهيب والتعذيب والإخضاع بالابتزاز بقتل أطفالهن أمام أعينهن، بل كم من أم سودانيه فقدت أبناءها بعضهم أو كلهم بسبب القصف مرة وبسبب المجاعة مرة أخرى، وأخريات يبحثن عن أبنائهن بين القبور الجماعية. حوامل وَلدن في قارعة الطريق مع غياب وانعدام الحماية الصحية والقانونية والاجتماعية مصاحبة لسوء أحوالهن النفسية واهتزازها، فتيات يُجبرن على النزوح، والناجيات من الاغتصاب الجماعي يحاولن الانتحار. هذه المشاهد الصادمة لا تعبر قيد أنملة عن واقع مظلم قاتم، تعجز حقا الحروف عن نقل المعاناة التي تعيشها السودانية، لتظل الحماية غائبة والمحاسبة مؤجلة، والعدالة بعيدة. وأصوات السودانيات مهمشة أمام عالم اختار الحياد والصمت…إلى متى!!!
ختاما، ما تعيشه المرأة في مناطق الحروب والنزاعات وصمة عار على جبين البشرية، في زمن يتغنى بالشعارات البراقة المنصفة للمرأة. تظل المرأة الفلسطينية والسودانية وجهان يعكسان صورية هذه الشعارات وزيفها، وأنه أمامنا عقود كثيرة من النضال ورفع الصوت في كافة الملتقيات والمناسبات للتأكيد على حماية المرأة من شتى أشكال والعنف والتمييز، لأنه في حمايتها يتجلى حماية المجتمع كله. إذن الجميع أمام مسؤولية تاريخية، سياسية وأخلاقية لمنع هذه الانتهاكات الجسيمة في حق المرأة.