مقدمة
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، وأنزل عليه شرائعه، مفصلا مقاصد الخلق وما يلزم لتحقيق هذه المقاصد. وقد نحصر المقاصد الكبرى لخلق الإنسان في خلافته لله سبحانه وتعالى إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً (البقرة: 30)، وعمارته للأرض هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا (هود: 61)، هذه العمارة التي تروم تحقيق العبودية التامة له سبحانه وتعالى في جميع مناحي التكليف وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 56).
عمارة الأرض أمان ونماء
وإذا اقتضت حكمة الله أن يخلق الإنسان على جنسين ‑رجل وامرأة‑ فليس عبثا، وحاشاه سبحانه، فالعبث ليس من صفاته جلّ قدره وعلا عن ذلك علوّا كبيرا، وإنما كان القصد التساكن والتعاون في دروب الحياة هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا (الأعراف: 189) لعمارة الأرض. وعمارتها لها معان عظيمة، حيث هيأ الحق سبحانه وتعالى الأرض بكل ما تتطلبه هذه العمارة لينعم الإنسان بحياة هادئة مستقرة؛ استقرارا نفسيا وروحيا وجسديا، وسط بيئة أمر سبحانه وتعالى بعدم الإفساد فيها حتى تظل ذلك الملجأ الهنيء والرّبع البديع الذي يضفي جمالية على حياة الإنسان، بل ويحقق له مبتغاه وحاجياته الضرورية لهذه العمارة، التي أصلها تحقيق العبودية الكاملة لله. فكانت عمارة الأرض بهذا مقصدا شرعيا وواجبا دينيا كلف به الإنسان؛ بحثا علميا وتطورا صناعيا واستقرارا اقتصاديا وجهادا عدليا واهتماما إنسانيا بكل متعلقات الحياة الروحية والجسدية.
ومن تمام عبودية العبد لله سبحانه وتعالى؛ السير في هذه الأرض بما يرضي الله، امتثالا لأوامره التي حمّل رسله عليهم السلام تبليغها في كل المجالات، ومنها علاقة العبد بالكون، الذي هو بيئته ومجاله الذي يحيى فيه، فعلّمه الله العلم وفتح عينيه على كثير من نواميسه التي لا غنى له عنها، وأمره أمرا قطعيا بعدم الإفساد واتباع الهوى فيها إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (المائدة: 33)، وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (القصص: من الآية 77)، وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (العنكبوت: من الآية 36). آيات كثيرة تحذر من اتباع الهوى والفساد في الأرض الذي يجعل من بيئة الإنسان بيئة جدبة من معاني الخير والصلاح والإصلاح المطلوب، لينطلق الإنسان بفطرة سليمة تعمر الأرض بما يعينه على سلامته وأمانه وبنائه الروحي والجسدي، والصورة العكسية لذلك؛ هي انطلاق الإنسان غير آبه إلا بما يمليه عليه هواه وأنانيته، فلا ترى في علاقة الإنسان بالكون إلا خرابا وحروبا ودمارا، والكل باسم العلم والتقدم الحضاري والصناعي الذي يخرق ويضرب عرض الحائط توازنات كونية جعلها الله عين استقرار هذا الكون، فيشقى الإنسان وتشقى معه كل الكائنات، وهو ما نعيشه اليوم، فلم تعد العمارة أمانا ونماء كما أرادها الله سبحانه وتعالى.
الإنسان جوهر عمارة الأرض
إذا تحدّثنا عن علاقة الإنسان بالكون، حيث جعلها الله علاقة رحمة وبناء وتعمير وحثّ ألا تكون علاقة تخريب وتدمير، حتى ينعم الإنسان بما أراد له الله من حياة مستقرة، فكيف بأثر علاقة الإنسان بأخيه الإنسان؟ وعلى وجه الخصوص علاقة المرأة بالرجل، اللذان جعلهما الله مستخلفين في أرضه. وقد نطرح سؤالا جوهريا؛ هل نوع العلاقة بين المرأة الرجل يؤثر سلبا أو إيجابا على مفهوم الإعمار، على اعتبار أنهما العنصر الأساس المكلف بهذا الإعمار؟
ممّا لا شك فيه أن العلاقات بين الأفراد رجالا ونساء لها الأثر البليغ في كينونة الإنسان وسط هذا الكون، أثر حب ورضا وتناغم مع كل المخلوقات التي خلقها الله، سننا كونية وعبودية للخالق سبحانه، أو أثر نزاع وتباعد وتباغض قد يجعل من الأفراد نغمة نشازا في كون يعزف سنفونية الحب والوئام التي تجمعها على صعيد واحد أمام الخالق.
فالله سبحانه وتعالى خصّ جميع العلاقات بين المرأة والرجل، كيفما كانت هذه العلاقة: علاقة زوجية أو علاقة أبوة وبنوة أو علاقة أنساب، بكثير من الإحسان والمودة والحب وخفض الجناح والقيام بما أوجب الله من مسؤوليات تجاه الآخر، لا لشيء إلا أن يعيش الإنسان في كنف هذه المعاني التي تعطيه نفسا من الثقة والسكينة والطمأنينة، فتجعل منه كائنا منتجا مبدعا معمّرا في تناسق وتساوق مع ما أراده الله سبحانه وتعالى. فمن عاش بالحب أعطاه، ومن عاش بالعدل تشبّعه وطبّقه، فكان نموذجا في الخير والبذل والعطاء، وهي أمور قد لا نجد إعمارا بدونها، وإن دلت على شيء فهي تدل على علاقة ود وتحاب وتوافق لا علاقة نفرة ونزاع وتباغض، يقول الحق سبحانه وتعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (سورة التوبة، الآية 71). فأصل العلاقة بين المؤمنين والمؤمنات في هذه الآية، وهم رجال ونساء، ولاية في الله تجمعهم لهدف من أسمى أهداف إعمار الأرض وهو إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ركنان من أركان الإسلام لا يقومان إلا بعد النصح والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه المهام الجليلة التي جعل الله أسّها ولاية بين المؤمنين والمؤمنات، ولاية لا تقوم لها قائمة إلا بالتقارب والتواد والرحمة، فيقتبس كل منهما من نور الآخر ليبدد ظلام المعصية والطغيان أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ومحبة لنشر الخير في ربوع الأرض.
هذه الولاية التي تجمع بين الرجل والمرأة في جميع مستويات العلاقة بينهما، الخاصة والعامة، ولاية همها الدار الآخرة والقرب من الله وطلب الزلفى عنده سبحانه، فنجد الشارع الحكيم قد فصل في هذه العلاقات ما يحل وما يحرم، وما هو فرض وما هو نفل يتقرب به، وربط الخيرية بمن خدم وأعطى وبذل، وجعل الجزاء الأوفى لمن أكرم وغفر وتجاوز، فكانت مجالات الاحتكاك بين المرأة والرجل بهذه المعاني صغيرة إن لم نقل ضئيلة إن عشنا والهمّ الآخرة.
خاتمة
جاء في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا…” (أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، رقم: 54)، فدل على أن المحبة والتواد من أصل الدين، وأن النزاع والشقاق مما يبغضه الله، فكانت حكمته أن حفظ الحقوق بشرعه ودل عليها بأمره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلها سلسة هيّنة بزيت المحبّة والإحسان.