لطالما عانينا ولا نزال من هجرة الكفاءات العلمية العالية من المغرب. كفاءات يُنْفَقُ عليها من ضرائب الشعب ملايير الدراهم طيلة مسيرتها الدراسية، لتجد نفسها يانعة باسقة لها طلع نضيد رزقا لدول غربية ليس لها من مساهمة إلا أنها نَصَّبَتْ وكلاء يحمون مصالحها ويدُعُّون النخبة إلى الهجرة دَعّاً! بهذه الاستراتيجية تضمن الطبقة الحاكمة من جهة هيمنتها وسيطرتها على “الدهماء” و”الرعاع”، وتأمن القوى الإمبرالية الغربية من جهة أخرى على مصالحها الاقتصادية ونفوذها السياسي.
إبان السنة الثانية لكورونا كانت صدمتي كبيرة، وكان إحساسي بِالْغُبْنِ قويا جدا، عندما رافقت ابني البكر إلى المطار متجها للديار الأوروبية لاستكمال دراسته. لم يكن وقتئذ مسموحا بالرحلات الجوية إلا للطلبة والطالبات فقط، بالتالي لم يسمح بدخول المطار إلا لهذه الفئة، فكانت دهشتي كبيرة عندما رأيت جيشا عَرَمْرَماً من الشباب و الشابات تتراوح أعمارهم بين 18 و20 جلهم من الذين اجتازوا الأقسام التحضيرية وتفوقوا في امتحاناتها. اغرورقت عيناي بالدموع، فانزويت بنفسي، وانهمرت بالبكاء ليس حزنا على فراق فلدة كبدي، وإنما حزنا على هذا الوطن الغالي الذي فرط ولا يزال يفرط في قشدة زبدة شبابه (la crème de la crème).
ما رأيته كان مجرد عينة صغيرة لحالة نزيف مزمن أصاب جهازنا التعليمي، ربما حالة كورونا ساهمت في تجليته، لكنها الحاله نفسها التي تعيشها كل الأقسام التحضيرية والمعاهد والمدارس العليا وكليات الطب و الصيدلة ومنذ عهود خلت، تصدير النخبة طوعا وكرها إلى الخارج! وكأن المغرب عبارة عن ضيعة فلاحية ضخمة تربى فيها الأبقار وتُحلَبُ ثم يمخض لبنها فتستخلص منه الزبدة وتعطى مجانا للأجنبي لا لشيء إلا لأنه يعرف قيمتها، أما ما تبقى من شبه اللبن فيلج الجامعات ويمتهن الوظائف الصغيرة والمتوسطة ومنها التعليم نفسه!
اليوم لم نعد قلقين فقط من هجرة الكفاءات العلمية والأدمغة العالية، بل أصبحنا متوجسين من هجرة أطفالنا القاصرين، الذين أدركوا رغم قلة تجربتهم في الحياة، ورغم قِصَرِ نظرهم أن مستقبلهم في المغرب يتسم بالضبابية وعدم وضوح الرؤية، ما دفعهم إلى اغتنام كل فرصة يخيم فيها الضباب على شواطئ مدينة تطوان للرمي بأنفسهم في عرض البحر بحثا عن أفق مستقبلي واضح وآمن. قد يبدو هذا الأمر للبعض عاديا وحدثا معزولا، لكنه في حقيقة الأمر مثقل بالدلالات ومجلي للمآلات.
تأمل معي دولة أصبح هَمُّ أطفالها هجرة الوطن! هل يا ترى هذه الفكرة نزلت نزول المضليين على عقول هؤلاء القاصرين، أم هي قناعة استخلصوها من محيطهم ودَعَّمَهَا واقع البؤس والفقر المدقع والبطالة المقنعة والفساد المستشري في كل دواليب مؤسسات الدولة؟ أليس واقع الأسر كافٍ لإقناع الأطفال المعدومين و المحرومين بالمغامرة بأرواحهم بحثا عن مستقبل يغري أعينهم وأنفسهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟ لست هنا في معرض التحريض على هجرة القاصرين، ولا لتبرير هذا الفعل المرفوض جملة وتفصيلا، بل أنا هنا لتحديد المسؤولية القانونية والسياسية والاقتصادية للحاكمين وحكومتهم تجاه هذه الظواهر التي تسيء إلى سمعة الوطن، وتكشف عورته أمام العالم!
لقد كشف إقدام أطفال قاصرين على الهجرة سباحة إلى مدينة مغربية مستعمرة “سبتة”، أن تحية العلم والنشيد الوطني الذي يردده التلاميذ كل صباح في مدارسهم لم يغن عن هجرة الوطن شيئا، وأن غرس حب الوطن والتعلق بالوطن في الناشئة لا يكون بتلويك عبارات وترديد كلمات، وإنما يكون عبر توفير الحياة الطيبة الكريمة داخل الأسرة، التي بدورها تبث الأمن الاجتماعي والأمن النفسي والأمن الصحي في نفوس الأبناء. إن مطالبة طفل قاصر، ينحذر من أسرة يعاني فيها الأب إما من البطالة المقنعة أو الأجر المتدني، وتَتْرُكُ فيها الأم جبهتها الحقيقية لتشتغل مساعدة في البيوت، وينغمس فيها الإخوة الكبار في آفات البطالة والمخدرات والجرائم، إن مطالبة هذا القاصر وقد قَدِمَ إلى المدرسة فارغ البطن بالوقوف مستقيما مبتسما لترديد “منبت الأحرار مشرق الأنوار…” والتعويل على تكرار هذه العملية لغرس حب الوطن في وجدانه لضرب من الدجل والخيال!
لقد وضعت حالة الأطفال القاصرين وهم يسبحون في اتجاه مدينة سبتة الدولة أمام المرآة لترى حقيقة وجهها وتقف عند زيف شعاراتها فلا المخطط الأخضر أشبع البطون بخضرواته وفواكهه الرخيصة، ولا المخطط الأزرق أغدق على المغاربة بأسماكه البيضاء والزرقاء، ولا المشروع التنموي أخرج المواطنين من الفقر والبطالة، ولا المشاريع الاستراتيجية الكبرى أخرجت البلد من ذيل مؤشرات التنمية، ولا دولة الحق والقانون المزعومة سمحت للناس بحرية التعبير والتنفيس عن الاحتقان الفظيع الذي يعيشونه. في ظل كل هذا ولعقود من الزمن لم نعد قلقين فقط على هجرة الكفاءات العلمية والأدمغة العالية، بل أصبحنا متوجسين من هجرة الأطفال، ما يعني أننا كنا نعاني قصور النخبة وأصبحنا نعاني من الخوف على مستقبل البلاد الذي شئنا أم أبينا ترمز إليه هذه الطفولة التي اختارت الهروب من الوطن!