قدم الأستاذ منير ركراكي، عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان، في الشريط الذي بين أيدينا، نتفا من بعض المعاني الجميلة المحيطة بذكرى مولد خير البرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأورد صيغا من صيغ احتفال المغاربة بهذا اليوم المشهود، قبل أن يختم بقصيدة هدية لسيدنا وإمامنا نبينا الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام.
ربط الداعية يوم مولد خير البرية صلى الله عليه وسلم بالفصل الذي كان فيه وهو فصل الربيع، والربيع “ملك الفصول؛ فبعد ذبول وإمطار ينشر الله رحمته في الربيع وينبت من الأرض نباتا حسنا، كما تشرق السماء بشمس ابتسام فرحا واحتفاء بهذا المولد المبارك”. ثم إن “ليلته بدرية، بمعنى أنها ليلة بين يدي الأيام البيض إيحاء بالمحجة البيضاء التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك” يقول، ويضيف “وما بعد الأحد إلا الإثنين؛ فكما نشهد أن لا إله إلا الله نشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله، ونصوم هذا الاثنين احتفالا بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما احتفل هو بمولده: ذلك يوم ولدت فيه“.
ونوه الأستاذ ركراكي إلى أن “الصيام لا يأخذ بعدا ضيقا”، فنحن “نحجر واسعا إن اعتبرناه إمساكا عن شهوتي البطن والفرج، بل هو صيام شامل جامع مانع: صيام العينين عن الخيانة، والألسن عن الحصائد، والقلب عما يحلق الدين ومنها الشحناء والبغضاء وما إليهما، والعقل عن أن يحشى بالخليط اللقيط من الأفكار الدخيلة والسامة والملوثة للفطرة، والنفس عن السوء الذي تأمر به بإحياء السنن عسى أن تحرر مما يكبلها من عقد، والقلب والروح عما يدسيهما ولا يزكيهما قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا“.
في المجمل هو “صيام شامل، خاصة في زمن الفتنة حيث التنافس عن الانتهاء عما نهى عنه الله ورسوله ينبغي أن يكون أكبر، وأيضا ما أمرنا به، “ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتُم”، فيلزم التخلي قبل التحلي ليكون التجلي”.
يوم المولد النبوي، أيضا “يوم أشرق فيه النور. آمنة بنت وهب لما أنجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت نورا يملأ ما بين السماء والأرض. فرسول الله صلى الله عليه وسلم نور يستضاء به قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ؛ نور لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج الأمة من الظلمات إلى النور، وهداها إلى صراط مستقيم. ثم إنه رحمة وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ، هذه الرحمة تجلت في الكون يوم مولده صلى الله عليه وسلم الذي كان عام الفيل؛ حيث حفظ الله قبلة الصلاة والحج من أبرهة وأفياله، فهذا اليوم حفظ لنا قبلتنا وكعبتنا وبيتنا الحرام. وأيضا رحم به هذه الأمة، الأمة الخيرية، الأمة المرحومة كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؛ مرحومة لأن الله تعالى أعطاها ما لم يعط غيرها من التشريف، وخفف عنها التكليف، وحفظها مما أصاب الأمم الأخرى من الخسف والغرق وغيرها من الكوارث غير الطبيعية، بل من العقاب الإلهي المبير الذي أفنى تلك الأمم. وأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحومة والخير في أولها وآخرها وليس هذا إلا لها، وهي على موعد مع الشافع المشفع يوم اللقاء العظيم يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ“.
من ميزات يوم ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سبب “عتق الأُمة والأَمة؛ عتق الأُمة من الجاهلية حكما وظنا وحمية وتبرجا ووءدا للبنات وما إليها من موبقات، وعتق الأَمة وبالضمن المرأة لأن المرأة أمة الله سبحانه وتعالى، حيث أعتق أبو لهب – وهو من هو – الجارية التي جاءت تبشر بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حن قلبه ورق احتفاء برسول الله واحتفالا بمولده صلى الله عليه وسلم. أعتقها وهذا إيذان بعتق المرأة من وأدها صغيرة ومن إهانتها ومن حرمانها مما جعله الله حقا لها، كما يقول الإمام رحمه الله “الإحسان إليهن عدل والعدل ظلم والظلم حجاب”، “رفقا بالقوارير”، وما إلى ذلك من صنوف ما خص الله به المرأة المرحومة المعتوقة برسول الله صلى الله عليه وسلم”.
ثم إن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم “مولد بعثة لخاتم الرسل والأنبياء وسيدهم وإمامهم صلى الله عليه وسلم، معجزته العظمى في أمته أنها أمة بيان، هو صلى الله عليه وسلم من جعلها أمة خيرية بشرعة قرآنية ومنهاج نبوي، أنشأ بذلك لهذه الأمة تاريخا وحضارة مجيدة مصدقة لما بين يديها ومهيمنة عليه”.
وختم الأستاذ ركراكي هذا المحور بسؤال استنكاري: “أفلا يستحق منا هذا اليوم أن نحتفل ونحتفي به؟”. قبل أن يذكر ببعض صور احتفال المغاربة حسب المناطق؛ “ففي شرق هذه البلاد المباركة الاحتفال يكون خاصا وعميقا من الأطفال الذين لم يبلغوا سن الرشد بعد لكنهم راشدون في احتفالهم أن جعلوا -كثيرا منهم ذكورا وإناثا- يلبسون أفخر الثياب ويحملون حناء وتمرا وحليبا وبأيديهم الدفوف يقدمون بعض الأهازيج في مدح الرسول، وهذا فيه إبداع وإمتاع وإشباع.. وفي شمال المغرب – خاصة في سبتة وطنجة وتطوان والشاون – هناك تجل من تجليات الاحتفال لقرون من الزمن يأخذه جيل عن جيل؛ يلبس الأطفال أفخر الثياب أيضا ويحملون شموعا مضيئة، يخرجون في مواكب للشموع في ليلة المولد، وراءهم نساء بلباس فيه حياء ورونق وجمال، ووراءهم رجال يحمون الأطفال والنساء، وعلى السطوح وشرف المنازل من يصفق ومن يردد الأهازيج والأمداح والصلاة على رسول الله، محتفلين مع من يحتفل في هذا الموكب، ينثرون على الرؤوس الورد، في منظر بهي.. وفي تلك الليلة تكون هناك أمداح نبوية وقراءة البردة البصيرية وما إلى ذلك من تجليات هذه المحبة. ثم إن بعضا منهم ممن خص ببعض إرث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توارثته الأجيال يقدمون للضيوف إكراما خاصا؛ تحفا من أشياء رسول الله كالخف وشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتنعموا برؤية هذه الآثار ولتزداد محبتهم للجناب الشريف”.
من مظاهر هذه المحبة أيضا، يسترسل الأستاذ ركراكي؛ أن المغاربة اتخذوا يوم مولد رسول الله “عيدا؛ يفعل في هذا اليوم ما يفعل في العيد من غسل البدن وتطييبه ولبس أفضل الثياب وأحسنها والتهاني والأماني يتبادلونها والزيارات وصلة الأرحام والتسامح وما إلى ذلك من صنوف ما يفعل في العيد. والذي وافق مولده يوم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى باسم رسول الله خاصة إن كان بكرا من الذكور، وإن لم يكن اختير له اسم من أسماء رسول الله الأخرى كأحمد والمختار.. تعظيما وتأريخا وتوثيقا لهذه الذكرى”.
من مظاهر الاحتفال كذلك أن يكون يوم “مولد رسول الله فرصة ومناسبة لبعض العائلات العريقة أن تؤدي زكاتها في ذلك اليوم، كأنها تزكي نفسها، كأنها تجعل ذلك هدية، يقول المغاربة “هدية للنبي”، ومنهم من يعقد العزم عهدا على نفسه أن يفطمها عما لا يليق وما لا ينبغي، أو يأخذ عزمة في ذلك اليوم الأغر هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيسامح ويصافح ويصالح ويعزم عزمات تيمنا بمولد رسول الله واقتحاما به العقبات ومواجهة به التحديات. فلهم في مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مآرب أخرى”.
وكشف عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان كيف كان يحتفل الإمام المؤسس عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، فقد كان له “مأرب خاص في هذا اليوم، زرناه في هذا اليوم فقال لنا بعد حفاوة وإكرام وابتسام وطيب كلام: أتدرون كيف ينبغي إحياء هذه الذكرى؟ فألجمنا السؤال وكان منه الجواب: إحياءنا هذا اليوم يكون بتجديد الولاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم التفت إلي وقال: هذا عنوان قصيدة: جدد ولاءك، هلا نظمت لنا أبياتا تحت هذا العنوان، فعدت إلى المنزل متهمما بهذا التشريف في التكليف” ومن الله تعالى بهذه القصيدة:
جَدِّدْ وَلاءَك
جَدِّد ولاءك للحبيب تودُّدا
واصقل فؤادك يا أُخَيَّ من الصدا
واغسل بدمع الحزن خائن أعين
أَدْمى المآقيَ بالسّهام وبالمُدى
قل إنني في درب ربي لم أزل
أمضي وأرجع حائرا مترددا
يا سيد السادات ضاقت حيلتي
فارحم عُبَيْدَك لا تذره الـمُبْعَدا
واشفع له عند الولي وأهله
فلقد أساء وما أناب ولا اهتدى
إن جاز عذرا أن يُقِرَّ بذنبه
هل تَسلمُ الأعذار من كَيْد العِدا
النفس والشيطان والطبع الذي
إمَّا دعا داعي الهوى رَدَّ الصدى
ذي شقوتي غلبت وطال بلاؤها
أمَّارتي بالسُّوء لا تبغي الهُدى
فمتى أَبَلُّ بتوبةٍ أَرْنو بِها
لِمقامِ مَن لَبّى ووَفّى واقْتَدى
هل يَفتحُ الأقفال غيرُ مُحَمَّدٍ
حَمْلاً وإكساباً على طول المَدى
وَصّالَ أرحامٍ وإِسْوَةَ صَفْوَةٍ
يَقْري ويُسْعِفُ في النَّوائبِ مُنْجِدا
هل يَكْسِر الأغلالَ غيرُ مُجَدِّد
هو في الدُّجى نُورٌ وللصّادي نَدى
هل يَهزِمُ الأهوال غيرُ مُؤيّدٍ
حمَّلْتَهُ وَعْدَ الخِلافةِ مَقْصِدا
هل يصدُقُ الأقوالَ غيرُ مُسَدَّدٍ
أَودَعْتَهُ نورَ البصيرةِ مُرشِدا
هل يُخْلِصُ الأعمالَ غَيْرُ مُوحِّدٍ
لم يَرْجُ إلاّ اللهَ ربّاً سَيِّدا
هل يُصْلِحُ الأحوالَ إلاّ مُفْرَدٌ
ذَكَرَ الإله مُسَبِّحاً ومُفَرِّدا
هل يُنْعِشُ الآمالَ إلاَّ مُسْعِدٌ
سَلاَّ وواسى والمخاوِفَ بَدَّدا
هل يُلْجِمُ الأغوالَ إلاّ مُفْنِدٌ
شُبُهاتِ مَن خَطِئَ الصّواب وألحَد
هل مُلْهِمُ الأجيالِ إلاّ مُسْنِدٌ
هيهات يمضي جُهدُ قَومتِهِ سُدى
إني لأرجو في ربيعك سيدي
مِنكَ الرّضى كي لا أظلَّ مُقَيَّدا
هلاّ مَددْتَ يداً إلى صدر الفتى
فأَحَلْتَه بعد الخراب مُشَيَّدا
هَلاَّ بعثْتَ إلى هَواهُ مُذَكِّراً
يدعوهُ لا تحزَن لَك العُقبى غَدا
إِنْ قُمْتَ مَعْ مَن قام قومةَ عادِلٍ
وعَبَدْتَ ربّكَ مُحسِنا مُتَجَرِّدا
هذي ثمار خلافتي قد أَيْنَعَت
حان القِطافُ فَمُدَّ للأقصى يَدا
واصدع بما تؤمر وأعرض سالما
عن جاهل مهما تَوَعَّدَ أَوْ عَدا
أَسَد عَلَيْك وفي المحافل دُمية
تُدْعى إلى الأَخْزى فَتَضْرب مَوْعدا
آفاقها سُودٌ وحاضرُها أَسى
والرَّعْدُ بعد السُّحْب هاجَ وهَدْهَدا
يا مولد المختار أمِّن روعتي
حاشاك ترضى أن أَظَلَّ مُهَدَّدا
يا مولد المختار فرج كربتي
واجعل قراني بالهداية سَرْمَدا
يا مولد المختار ذَكِّرْ أُمَّتي
بالنور حين أضاء مَكَّةَ مُسعدا
سُّرَّتْ أمينة بالوليد وأُعْتقَت
أَمَةٌ وأَبْرَهَةُ انثنى لَمَّا اعْتَدى
بارك إلهي حفلنا في مولد
هو في دُجى الأسحار يبدو فرقدا
وامْنُن على كل الحضور بيقْظة
تحصي المحامد لا تجاوز مَحْمدا
واجعل إلهي هديَ أحمد وازعا
حتى نتوب إلى الصواب متى بدا
أحص العدى بِددا ولا تشمت بنا
في حصرنا ودُنى المصائب حُسَّدا
من راسِمٍ رامَ الإساءةَ ويحه
إلا النبيُّ المصطفى نفسي الفدا
إلا رحاب المسجد الأقصى فلن
يَهنا لنا بال إلى أن يُفْتَدى
من قبضة الأوغاد من تهويده
هذا الرَّجا خَبرٌ ونحن المُبتدا
مسك الختام صلاتنا تَترى على
من كان في كل المناقب سيدا
والآل والأصحاب من كانوا ذُرى
نعم الأماجدُ قائمين وسجدا
وعلى الذي أخذ النبيَّ وسيلة
أعطى الولاء على الفداء وأشهدا
ألا يخون العهد طيلة عمره
حتى ينالَ النصر أو يستشهدا
وعلى شُوَيْعِرِكم وكل متيم
صلى وسلم بالمدائح منشدا