المونديال أم الصحة والتعليم؟

Cover Image for المونديال أم الصحة والتعليم؟
نشر بتاريخ

كلما أعلنت دولة عن استضافة حدث رياضي عالمي، تتجه الأنظار إلى الملاعب اللامعة، والأضواء المبهجة، والهتافات التي تملأ الشوارع. يعلو صوت الفخر الوطني، وترفع الشعارات عن “القدرة على الإنجاز” و“الانفتاح على العالم”.

لكن، خلف هذا البريق، يهمس سؤال بسيط في أذهان الناس: هل نحتاج فعلا إلى المونديال أكثر مما نحتاج إلى مستشفى مجهز أو مدرسة تليق بأطفالنا؟

سؤال يبدو بسيطا، لكنه عميق في دلالته. فهو لا يبحث عن إجابة تقنية، بقدر ما يختبر ميزان الأولويات في السياسات العامة، ويكشف كيف تنظر الدولة إلى الإنسان: هل هو غاية التنمية أم وسيلة لتلميع الصورة أمام العالم؟

غالبًا ما يكون الجواب الرسمي جاهزًا ومُطمئنا: “المونديال مشروع وطني ضخم، فرصة اقتصادية وسياحية، وسبيـل لتلميع صورة الوطن عالميا. سيوفر مناصب شغل، وينعش الاقتصاد، ويُظهر قدرتنا على التنظيم والتطور.”

سيُقدّم المونديال على أنه استثمار في المستقبل، لا ترفا مؤقتا. وستُساق الأرقام والإحصاءات لتؤكد أن هذه المناسبة ستعود بالنفع على جميع القطاعات، حتى على الصحة والتعليم، من خلال ما ستخلّفه من عائدات وبنية تحتية.

بهذا المنطق، تحاول الدولة أن تجعل من “المونديال” رمزا للنهضة، لا منافسا لأولوياتها الاجتماعية.

لكن، لو انقلب السؤال وطرحت الدولة هذا السؤال على الشعب، لكانت الإجابة مختلفة تماما. فالشعب لا يتحدث بلغة الأرقام، بل بلغة الوجدان والمعاناة اليومية: ما الذي تفضلونه؟ أن نصرف المليارات على تنظيم المونديال، أم على بناء المستشفيات والمدارس وتكوين الأساتذة والأطباء؟

سيأتي الجواب من القلب لا من الورق:

نريد مدرسة نظيفة تُعلّم أبناءنا علما حقيقيا، لا حشوا في أقسام مكتظة.

نريد مستشفى يعالج المريض بكرامة، لا يدفعه إلى بيع ما يملك من أجل الدواء.

نريد أن نرى أستاذا مكرما لا مُرهقا، وطبيبا يجد ما يعمل به لا ما يتحسر عليه.

سيقول الشعب: “الفخر الحقيقي ليس أن يصفق لنا العالم تسعين دقيقة، بل أن يعيش المواطن حياة كريمة تسعين عاما.”

فالمونديال حلم جميل، نعم، لكنه لا يغني عن دواء مفقود، ولا يُعوّض أستاذا منهكا، ولا يُداوي خيبة طالب ضاع مستقبله في قسم مكتظ.

ولأن الأمم لا تُقاس بعدد ملاعبها، بل بعدد عقولها التي تُبدع، وقلوبها التي تبني، يبقى السؤال مطروحًا: هل نريد أن نُبهِر العالم يوما واحدا، أم نبني وطنا يُبهِر أبناءه كل يوم؟

تجربة البرازيل.. درس لا يجب أن ننساه

حين استضافت البرازيل مونديال 2014، كان الحلم يشبه الحلم الذي نحمله اليوم: نهضة اقتصادية، إشعاع عالمي، وفخر وطني لا يُنسى.

أنفقت الحكومة البرازيلية أكثر من 14 مليار دولار على البنية التحتية والملاعب والمواصلات والفنادق، في بلد كان يعاني أصلا من أزمات حادة في التعليم والصحة والسكن.

لكن بعد أن انطفأت أضواء الافتتاح، وعاد المشجعون إلى بلدانهم، بقيت الحقيقة مؤلمة: ملاعب ضخمة خالية تحولت إلى عبء مالي، وديون ثقيلة على الدولة، وغضب شعبي واسع من إهدار أموال الشعب على كرة القدم بدل الإنسان.

خرج الآلاف إلى الشوارع يهتفون: “نريد مستشفيات، لا ملاعب. نريد مدارس، لا مقاعد للجماهير.”

أدرك البرازيليون متأخرين أن الاستثمار في الإنسان أثمن من الاستثمار في الحدث، وأن الوهج الإعلامي لا يُطعم الفقير ولا يُعلّم الجاهل.

ولم تمضِ سنوات حتى وُصفت التجربة بأنها “الفرصة الضائعة”، إذ لم يتحقق الازدهار المنتظر، بل زادت الفوارق الاجتماعية وتراجعت الخدمات الأساسية.

أما نحن اليوم، في عالمنا العربي، فنحلم بالتقدم ونفخر بإنجازاتنا، لكننا نتعلم.

نريد أن نحلم بوعي، لا بانبهار مؤقت.

نريد أن نفيق قبل أن نكرر نفس الخطأ، لأن الأمم الذكية لا تُقلّد، بل تتعلم.

نريد أن نستضيف المونديال يومًا، نعم، لكن حين يكون لدينا مستشفى يُضاهي ملعبا في الجمال، ومدرسة تُنافس في الدقة والتنظيم، وإنسان يحس أن هذا الوطن بُني من أجله، لا من أجل التصفيق.

الخلاصة

ليس العيب أن نحلم بالمونديال، بل أن ننسى أن أساس أي بطولة هو الإنسان.

إذا كانت الصحة والتعليم ضعيفين، فلن تنقذنا الملاعب.

لكن إن بنينا الإنسان أولا، فسيأتي المونديال إلينا يوما دون أن نطارده، لأن العالم يحترم من يزرع العقول قبل أن يلمع الكؤوس.