أهل مولد النبي صلى الله عليه وسلم وحرب الاستكبار الصهيوني على غزة توشك أن تستكمل سنة من الدمار والإبادة الوحشية للإنسان والأرض والمسجد. مولد النور والخير منة إلهية عظمى على البشرية، ودحر لعبادة الشيطان والطاغوت البشري والمادي. بميلاده خنس كل شيطان مارد من الإنس والجن يفسدون في الأرض ولا يصلحون. أخرجت النبوة العباد من الضلالة إلى الهدى ومن الجاهلية إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، وحررتهم من ظلم الشرك والعدوان على بني الإنسان. صحبوا نبيهم فعرفوا ربهم ودينهم.
يطل ربيعه النبوي الشريف على أمة الإسلام وقد تداعت قوى الاستكبار العالمي إلى قصعتها. إطلالة بشارة ونذارة تسائل كل مسلم ومسلمة حبه لنبيه صلوات ربي عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه، وعن كنه حقيقته، والحق ونصرته، والصدق وبرهانه، والمستضعف المغلوب وإغاثته، والإنسان وكرامته. أترانا أمة المليار على أعتاب النبوة منافحين مستعصمين أم نكصنا على الأعقاب، نولي الأدبار منهاج النبي وصحبه في عيش الآخرة جهادا وبذلا؟
1- على خطى أبي بكر
انبرى رجال الأنفاق في غزة الأبية إلى الميدان جهادا واستبسالا في الوغى منافحين عن حوزة الأقصى والأرض المباركة المقدسة، وطفقت عيون المسلمين تبرق بعلامات الاستفهام والتعجب عن تلكم الاستماتة التاريخية. هلا تساءلنا يوما ونحن الراكنون إلى الراحة والدعة وفتن الحياة والمعاش: ما الذي يقوي شوكتهم التي غرزوها في جسم المارد الصهيوني منذ قرابة قرن؟ مع طوفان الأقصى والهزيمة الاستراتيجية النكراء للاستكبار توشك أن تصل سميتها إلى النخاع فتصيب فيهم المقتل.
صدق الطلب لوجه الله، وابتغاء الآخرة، وحبهم لمسرى نبيهم أجج كل الكوامن فيهم. يعلمون مقام المسجد الأقصى وأرض الشام وأهلها في وصايا رسول الأمة خاتم الرسالات. امتثلوا للحق حبا وتأسيا لبشارة النبوة لبيت المقدس وأكنافه والطائفة المنصورة فيه، وحثه بقية المسلمين بالصلاة فيه وبزيارته. امتزج دمهم به وارتوت عروقهم بترابه وزيتونة وعبقت نسائم فجره. كيف تكتمل أسوة المسلمين بنبيهم وأمانة فلسطين قد ضيعت، وأرض الرباط انتهكت حرمتها، والإنسان المقدسي مكتومة صرخاته، مباح دمه، منتهكة كرامته؟
ما كان هم النبي صلى الله عليه وسلم تشييد دولة أو زعامة تسوس أصقاع الدنيا، فهو الرحمة المهداة من رب العالمين للعالمين من الأجناس البشرية. أفنى عمره صلى الله عليه وسلم يشيد البنيان البشري، مستمدا متانته من معرفة وحب الله الفرد الصمد وبث مكارم الأخلاق. لقد صنعت النبوة الشريفة الرجال الأفذاذ يفدون القرآن والنبوة بالأنفس والمال والجاه والولد. يعيشون الآخرة في الدنيا وقلوبهم معلقة بالله عز وجل، وحب نبيهم اتباعا وتنفيذا وجهادا.
حبه صلوات ربي عليه أصل كل حب نثره الله في كونه الفسيح. فكان لمن اتبعه الحظوة في حياته وبعد مماته، ويوم العرض الأكبر شفاعة ونجاة من النار. يقول الرحمة المهداة صلوات ربي عليه: “حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم. فما رأيت من خير حمدت الله، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم”. فلا غرابة أن نرى من حوله الصحب الكرام يتقدمهم الصديق رضي الله عنه يجهر بالفداء والحق والنصرة كرامة وحبا لمقام النبوة الجليل. ومن مثل أبي بكر في السبق للبذل والجهاد في ساعة العسرة من بدايات الدعوة المحمدية، وحين تكالب عليه أحزاب الكفر والنفاق من يهود ومشركين. رجل صدق بالصدق الذي جاء به خاتم المرسلين ولم يلتفت قلبه ولا رجف إلا لله.
كان حبه متفانيا ولا مشروطا لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، وثق عرى التقوى والورع الشديد لجناب الله عز وجل في قلبه رضي الله عنه، يقول تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ [البقرة، 165]. تصدى لصناديد الكفر وسدنة الشرك فكان الصاحب الأول للنبوة. حين آذاه عقبة بن معيط وهو يصلي يقول الراوي عروة بن الزبير رضي الله عنه: “فوضع -عقبة- رداء في عنقه فخنقه به خنقا شديدا، فجاء أبوبكر حتى دفعه عنه فقال: “أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ” (غافر، 28)“ 1. ما أشد ما تخنق بواعث الإيمان بالقرآن والنبوة اليوم في أمة الإسلام من لدن صناديد الاستكبار والاستبداد الإقليمي. الشاهد على ذلك إبادة غزة وحرب التقتيل الوحشية في القطاع المحاصر برا وبحرا. علم طواغيت الاستكبار أن القطاع وأهله قبس منبعث من نور النبوة المحمدية المحاربة منذ قرون فأرادوا إخماد جذوته.
2- كمال الرجولة
الصاحب الصديق انفرد بالصديقية وحده لاكتمال خصالها فيه. وطدت عمود حب الله ورسوله والدار الآخرة في أبهى تجلياته. يستخلص منها الأولون والآخرون من هذه الأمة كيف يفتدى هذا الذين الخالد بالنفس والنفيس. وكيف يستنصر للحق وللمستضعفين، وكيف يؤسس للعدل والإيمان. قال النبي صلى الله عليه وسلم منوها بمكانة أبي بكر في صحبه أولي الفضل: “إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ (مرتين)” 2.
يحتاج المسلمون المؤمنون بقضية الإسلام العادلة أن يقتفوا أثر الصديق في افتداء النبوة وإعلاء كلمة الحق. يقفون على كل ثغر من ثغور الأمة مرابطين مدافعين بعد أن تربص بها العدى من الداخل والخارج. يستنبطون العبر من مواقفه العظيمة، تحكي كيف غيرت محبته للنبي صلى الله عليه وسلم كل مناحي حياته فسطرت السيرة العطرة كمال الرجولة فيه. كمال يصير الرجل وما يملك كله لله. لا يخذل ولا يسلم دين الوحي في حياة النبوة وحتى بعد التحاقه صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى. أي نعم يقبض الرجال وتحيا الأمة بأثرهم وعظيم فعالهم وانتصارهم لدين الإسلام المضطهد من طرف المشروع الصهيوني العالمي. يروي ابن حجر في فتحه في كتاب مناقب الصحب الكرام وفضائلهم “عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: “أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك – كأنها تقول الموت – قال صلى الله عليه وسلم: “إن لم تجديني فأتي أبا بكر”ref]فتح الباري، الحديث 3659، ج7، ص 366.[/ref]. يوجه النبي صلوات ربي عليه وعلى آله مسلمة من أمته أن تلجأ لأبي بكر بعد وفاته ليقضي حاجتها. “فأتي أبا بكر”؛ خدمة المسلمين وإغاثتهم هي من تمام الدين، وصية نبوية خالدة باقية إلى قيام الساعة. هكذا كانت النبوة العصماء ومن بعدها الخلافة الراشدة لا تحتجب عن هموم العامة والخاصة. الصديق مدرسة رائدة، يد طولى في البذل والجهاد لا يكافئه بها إلا الله سبحانه يوم القيامة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم قبيل موته.