مرزوق عبادي
سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومًا، فقالت: (هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحد؟)، ومعلوم ما كان في أُحد من قتل الصحابة رضي الله عنهم واستشهادهم، وما كان أعظم من ذلك، وهو ما أُصيب به عليه الصلاة والسلام في وجهه الشريف، حتى سال الدم منه، (هل مر عليك يوم أشد من يوم أُحد؟)، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد لقيت من قومك ما لقيت)، يعني شيئًا عظيمًا، (وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب – يعني الموضع المعروف اليوم بالطائف – قال: فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا بها جبرائيل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليّ، ثم قال: يا محمد، إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين – يعني الجبلين العظيمين بمكة – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا). رواه البخاري ومسلم.
لقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيعة ما سيلقاه في هذا الطريق، منذ اللحظة الأولى لبعثته، وبعد أول لقاء بسيدنا جبريل عليه السلام، ذهبت به خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، فقال له ورقة: يا ليتني كنت حياً إذ يخرجك قومك، فقال له عليه الصلاة والسلام: (أو مخرجي هم؟)، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي. فوطن نفسه منذ البداية على تحمل الصد والإيذاء والكيد والعداوة، فما السلاح الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو الناس إلى الله عز وجل؟ وبماذا قاوم العدو وهو يتعرض لأصناف الأذايا والبلايا من طرف كفار قريش؟ هل لبى نداء سيدنا جبريل عليه السلام حين ناداه: يا محمد، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ كلا والله، إنه كان حليما رحيما، تحلى بالصبر والتؤدة والأناة، فأجابه بقوله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا.
وعد الله تعالى المؤمنين بالنصر إن هم صبروا واحتسبوا الأجر عند الله تعالى، وأخبرهم بأن النصـــر قريب، قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ البقرة/ 214. إن نصر الله موجود في هذه البأساء ذاتها، فابحثوا عن النصر في مزيد من الصبر عليها والرضى بها.
والبشارة النبوية بمجيء ساعة النصر واضحة للعيان جلية لأهل اليقين؛ فعن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، واللهِ ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون. رواه البخاري وفي رواية: “وهو متوسد بردة، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة”.
أخبرنا النبي ﷺ بأن النصر مع الصبر، وذلك أن الإنسان يحتاج إلى أن يصبر في مواجهة عدوه، ولهذا قيل: النصر صبر ساعة، ولهذا سئل بعض الأبطال كعنترة حيث إنه كان مشهوراً بشجاعته وفرط قوته وانتصاره على عدوه، فقيل له: من أين لك هذا؟ فقال: إنما هو صبر ساعة، ولهذا ذكر ابن القيم -رحمه الله- في آخر بدائع الفوائد عشرة أمور هي في غاية النفع، يحقق بها الإنسان الانتصار على عدوه، ويدفع شره وكيده، وذكر منها الصبر، أن يصبر على هذا الأذى، ويعلم أن ذلك لا يدوم، ولابد من تغير الحال، فما عليه إلا أن يتجلد، فلا يبدو منه شيء يشينه أو لا يليق به، أو أن ينفرط صبره فينهزم.
هذا، وأسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم الصبر واليقين والثبات، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته.