الهجرة بناء أمة

Cover Image for الهجرة بناء أمة
نشر بتاريخ

الهجرة بناء أمة

نجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى ذلك الوطن، حيث قال عليه الصلاة والسلام: “إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها”.

لم تكن الهجرة تضحية بالأموال ونجاة من الفتنة والشرك فحسب، بل كانت لبنة في بناء صرح مجتمع جديد تسوده الرحمة والمحبة والإخاء والمودة أعز الله به هذه الأمة المرحومة.

من أسرار الهجرة

أذن الله لرسوله الكريم بالهجرة، ووعده بالنصر والتمكين، فكانت هجرته عليه الصلاة والسلام فاصلا بين المرحلتين؛ المكية والمدنية للدعوة الإسلامية، واقتضت الحكمة الإلهية أن تكون الهجرة في شهر محرم الحرام، بعد رجوع الحجيج من مناسك الحج، بنفوس تواقة للبذل والعطاء فى سبيل الله. فاز أبو بكر الصديق بشرف الصحبة، ونال علي فضل النوم في الفراش الشريف فداء لشخصه الكريم، وفضل تولية رد الأمانات إلى أهلها، فكان مشهدا يفوح خدمة ونصرة لدين الله عز وجل.

ويبذل الصديق رضي الله ماله كله تاركا لأهله الله ورسوله، أي الناس يستطيع ما استطاعه أبو بكر؟ ويجهز راحلتين ليختار حبيبه وصفيه أفضلهما، مستنفرا أهل بيته الذين ضربوا مثالا رائعا في حماية الدعوة والداعية، همم عالية تربت في كنف رسول الله، وتعلمت أسرار الوحي في حلق العلم والتنافس على العطاء والبذل في ذات الله، مثلما تعلمت الثبات على المبدأ رغم طول الطريق ووعورة المسالك، إنها الصحبة الصادقة المستحضرة لمعية الله عز وجل في السراء والضراء “ما ظنك باثنين الله ثالثهما”.

ولم يتخلف أهل المدينة المضيفون عن التعرض لهذه النفخات والنيل من هذه البركات، فكانت تضحيتهم بالغالي والنفيس، مستحقين بجدارة صفة النصرة، مثلما استحق ضيوفهم صفة الهجرة بعدما هاجروا المال والديار، ولم يفروا إلا بدينهم.

الهجرة باقية

جاء في سنن النسائي وأحمد بإسناد قوي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الهِجرةَ خَصْلتانِ، إحداهما: أنْ يهجُرَ السَّيِّئاتِ، وأنْ يُهاجِرَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وإلى رسولِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولا تَنقَطِعُ الهِجرةُ ما تُقُبِّلتِ التَّوْبةُ، ولا تَزالُ مقبولةً حتَّى تَطْلُعَ الشَّمسُ من مَغْرِبِها، فإذا طلَعتْ طُبِعَ على كلِّ قلبٍ بما فيه، وكُفِيَ النَّاسُ العملَ”.

لا تنقطع فرحة الله بهجرة الغافلين من عباده وانضمامهم إلى سلك االذاكرين الطالبين وجه الله، واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، فهو عز وجل يمد يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويمد يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ينتظر وهو القوي المتكبر المتعالي، هجرة عباده عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، لينطلقوا من ضيق مجتمع الكراهية والتنابز بالألقاب، إلى سعة مجتمع الرحمة والتكافل والأخوة، وينعتقوا من ربقة ظلم واستكبار الأمم، لينعموا تحت عدل الإسلام وعزه، قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إنكم لا تغلبون عدوكم بعدد ولا عدة ولكن تغلبونهم بهذا الدين، فإذا استويتم أنتم وعدوكم في الذنوب كانت الغلبة لهم”، ويقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى في كتاب العدل: “التوبة قلب دولة”، أيها الأحباب؛ هي وضع الدنيا في سياق الآخرة، “هي نظم الدنيا في سلك الآخرة، هي الذكر الدائم لله عز وجل والمصير إليه، ثم العمل الجاد في الدنيا للآخرة” [عبد السلام ياسين، العدل، ص: 170].