يقول أحد الصالحين في حِكَمه: “من لا ورد له لا وارد له”، وبالرجوع إلى المعاجم اللغوية نجد كلمة الورد وردت بعدة معان كلها متقاربة؛ ففي قاموس المعجم الوسيطِ: الورد يعني الإشراف على الماء وغيره بدخول أو بغير دخول، والورد الماء الذي يُورَدُ، والورد القوم يَرِدُونَ الماء، والورد الإبل الواردة والورد الجزء من الليل يكون على الرجل أن يصليه، والورد كذلك: النصيب من القرآن أو الذكر – يقال قرأت وردي – والجمع أوراد.
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في تعريفه بحقيقة الأوراد في كتابه الإحسان: “المداومة في أوقات معينة على أذكار معينة هي ما يسمى في اصطلاح القوم بالأوراد. و الأوراد أوتاد راسية عليها يبني المؤمن خيمة الذكر في أرجاء وقته وعامة نشاطه وسويداء قلبه. الأوراد هي الطريق إلى الله عز وجل لا يستغني عنها مبتدئ ولا يزهد فيها واصل (…) الأوراد والمداومة عليها سنة وهي بمثابة نذر يقطعه العبد الصادق على نفسه يجب عليه الوفاء به” [1].
فلا تحيى القلوب إلا بالله، ولا يَرِدُهَا ما يَرِدُهَا إلا بمداومة الذكر. فذكر الله هو الأمر الأعظم الذي من أجله شرعت العبادات، وهو باب الله المفتوح بين العبد وربه ما لم يغلقه العبد بغفلته، يقول الإمام ياسين رحمه الله: “والوارد هو مزيد الإيمان الذي يقذفه عز وجل في قلب المتبتلين الذاكرين لله كثيرا المتهجدين” [2]. “وللورد، تحديدا ودواما، سند في قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: “أحب الأعمال إلى الله أدومها ولو قل”. الدوام معناه تكرار عدد العبادة يوميا. وهذا معنى الورد” [3].
والذكر يشمل أنواعا من العبادات؛ كالكلمة الطيبة، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدعاء.. وأعظم الذكر القرآن الكريم، يقول عز وجل: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ (يس، 69)، لذلك وجب الحرص على اتخاذ ورد يومي من القرآن الكريم تلاوة وحفظا، به نجدد العهد والصلة مع كتاب ربنا ونغترف من هداه يوميا، فهو الطاقة المتجددة والعطاء والخير الذي لا ينضب، وما فتئ المرشد عبد السلام ياسين يحث على الاعتناء بالورد القرآني، يقول رحمه الله: “أقل من أن يتلو المؤمن جزءا (حزبين) كل يوم صباحا ومساء (…) ويكون للمؤمن ورد للحفظ يبدؤه بالسور والآيات الفاضلة…”[4].
وللمداومة على الورد القرآني آثار عظيمة النفع على المسلم، منها: صفاء الذهن، وقوة الذاكرة، وطمأنينة القلب، يقوى بها على مواجهة الصعاب والمشاكل، وبالمقابل يتخلص من الخوف والقلق والتوتر والحزن، كما يجد المواظب على ورده القرآني توفيقا من الله في شؤون حياته وبركة في الرزق ونجاة من المكروه، وأفضل ما يتأتى له هو الفوز بالجنة يوم القيامة، حيث يأتي القرآن الكريم يُحَاجُّ عن صاحبه شفيعا له.
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه زاد المعاد: “كان له صلى الله عليه وسلم حزب يقرؤه و لا يخل به، وكانت قراءته ترتيلا لا هَذّا ولا عجلة، بل قراءة مفسِّرة حرفا حرفا، وكان يُقَطِّع قراءته آية آية…” [5].
وعن أوس بن حذيفة رضي الله عنه قال: “كنت في الوفد الذين أتوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمر معهم بعد العشاء، فمكث عنا ليلة لم يأتنا حتى طال ذلك علينا بعد العشاء. قال: قلنا: ما أمكثك عنا يا رسول الله؟ قال: “طرأ علي حزبي من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه”. قال: فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبحنا، قال: قلنا: كيف تُحَزِّبُون القرآن؟ قالوا: نُحَزِّبُه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشر سورة وثلاث عشرة سورة، فحزب مفصل من “ق” حتى تختم” [6]. ويؤخذ من هذا الحديث حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إكمال ورده اليومي حتى يُقَدِّمه على خروجه على قوم حديثي عهد بالإسلام قدموا المدينة كي يعلمهم دينهم.
والأحزاب التي ذكرت في الشطر الثاني من الحديث، والتي كان يداوم عليها عامة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي: في اليوم الأول: من البقرة إلى النساء؛ أي ثلاث سور، وفي اليوم الثاني: خمس سور؛ من المائدة إلى التوبة، وفي اليوم الثالث: سبع سور؛ من بداية يونس حتى نهاية النحل، وفي اليوم الرابع: تسع سور؛ من بداية الإسراء حتى نهاية الفرقان، وفي اليوم الخامس: من بداية الشعراء حتى نهاية يس، وفي اليوم السادس: من بداية الصافات حتى نهاية الحجرات، وفي اليوم السابع: من “ق” حتى نهاية المصحف. وربما اختلف ذلك بعض الشيء من صحابي لآخر، إلا أنه يؤكد حرص الصحابة رضوان الله عليهم على ختم القرآن كل أسبوع.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ القرآن في شهر، قلت إني لأجد قوة، حتى قال: اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك” [7].
وقد كان السلف الصالح على همم متفاوتة في قراءة القرآن الكريم؛ فكان منهم من يختم القرآن كل يوم، ومنهم من يختمهُ في ثلاثة أيام، ومنهم من يختمه كل شهر. وينبغي للمسلم أن يحرص على ختم القرآن مرة في الشهر على أقل تقدير كما ورد في حديث ابن عمرو. و قد ذكر الإمام أحمد و فقهاء الحنابلة كراهة أن يمر على المسلم أكثر من أربعين يوما دون أن يختم القرآن.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر و صلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل” [8].
مختارات من كلام الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله
– القرآن شفاء لما في الصدور، شفاء ورحمة للمؤمنين، على تلاوته وحفظه ومدارسته والعكوف عليه مدار طب القلوب وإعدادها لتمتلئ ايمانا، هو النور [9].
– ولكل من عظم كتاب الله وخدمه حفظا وتلاوة وعمل بأمره ونهيه نصيب من ولاية الله [10].
– مادامت التائبة تقرأ الدعاء وتهجر القرآن تلاوة وحفظا وورداً يوميا، فهي لم تخط الخطوات الضرورية ليكون القرآن ربيع قلبها، الخطوات: التلاوة والحفظ والمداومة.
– ويذهب الحزن وينجلي الهم متى طرد ترتيل القرآن أشباح الظلام من القبر الخامد المنطفئ الأنوار [11].
[1] عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 1، صص 297 – 298.
[2] عبد السلام ياسين، مجلة الجماعة، العدد 9.
[3] نفس المصدر.
[4] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 156.
[5] زاد المعاد، صص 482 -484 .
[6] رواه أبو داود وابن ماجة بإسناد حسن.
[7] متفق عليه.
[8] رواه مسلم.
[9] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 156.
[10] عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 1، ص 329.
[11] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج 1، ص 361.