“رَبحَ البيعُ يا أبا يحيى… رَبحَ البيعُ”؛ كانت عبارةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فرح يستقبل صهيبا الروميَ رضي الله عنه، فلقد تبعته قريش تريد ثنيه عن الهجرة إلى المدينة المنورة فقال رضي الله عنه لهم: “يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وأيم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فافعلوا ما شئتم، فإن شئتم دللتكم على مالي وخليتم سبيلي. فقالوا «نعم»، ففعل”.
ولقد جاء أمين الوحي جبريل عليه السلام وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فعل صهيب مع قريش وتخليه عن ثروته وإيثاره جوار رسول ربه الكريم، ونزلت الآية الكريمة: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (البقرة 207).
أي فضل ذاك الذي يمن الله به على أوليائه من المؤمنين الصادقين، فتتنزل أقداره لترفع من قَدْر المؤمنين فتختار العنايةُ الكريمة وتصطفي وتجتبي، فتبوئَ مقامات الجهاد و منازلَ السبق برخيص البلاء و قليل الابتلاء.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه عنه أنس بن مالك – رضي الله عنه: “إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ” (رواه الترمذي وحسنه).
كذلك فعل الله سبحانه عز وجل مع عباده، وكذلك فعل العبد الذليل بين يدي خالقة ورازقه، ما يكون له أن يتسخط على فعل الله وأمره، إذ المؤمن بين يدي قدر ربه راضيا مستسلما. يميزه رضاه واستسلامه لقدر ربه قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (آل عمران 179) .
ثم إن من الوظائف العظمى التي جعلها الله تعالى سنة ماضية في عباده، أن يجعل سبحانه في بعض المؤمنين عبرة وتذكرة وتمثلا لبعض، يبتلي من هؤلاء و يمحص ويصطفي، ليتذكر ويصبر ويحتسب هؤلاء وأولئك. ولِيُكتب عند الله تعالى سابقُ الصدق وعاليُّ الثقة في أمر الله ووعده، إذ لا تزيد البلية المؤمن إلا مضاء ووضاء، ولا تثني محن الزمان إلا بِقَدْر قَدَر الله وفعله، قال الصادق المصدوق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر ويسلي ويبين ويوضح الأمر لأهل الله وأهل النظر في قدر الله وفي فعل الله والحديث يرويه صحابينا الجليلُ صاحبُ البيع الرابح، فعن أبي يحيي صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له” رواه مسلم.
ما ينبغي للمؤمن أن يظهر المجبنة والخوف، بل هو مدد وعون لإخوانه، يريهم من نفسه قوة وشدة وعزما، حتى تقوى النفوس ويشتد العود، وتخيب مكيدة الأعداء، ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بإظهار القوة وذلك لما ظن المشركون أن الفرصة مواتية للانقضاض على المسلمين عند قدومهم للحج بعد صلح الحديبية بلا سلاح وقد أخذ منهم عياء الطريق فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “أروهم اليوم منكم قوة” فهرول الصحابة في الطواف وأظهروا نشاطا.
ولعمري لقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل والقدوة وعلم ولقن أصحابه ومَنْ بَعْدهم فن القدوة والمصابرة قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (الأحزاب 21).
وكذلك كان رب العزة جل وعلا يسلي نبيه عند الشدائد بمن سبق من الرسل والأنبياء ويسلي معه الأصحاب ومن تبع من المؤمنين إلى يوم الدين قال تعالى: وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُل لِّلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (سورة هود 120-123).
تلك سنة التدافع في أرض الله تقوي بعضُ الهمم السوامق هممَ الصحب والأحباب لتجعل منهم العون في الانتصار لدين الله تعالى، ورحم الله عبدا كان قدوة ومثالا تعبر منه همم المؤمنين وتتقوى.