اليقين (2)

Cover Image for اليقين (2)
نشر بتاريخ

من صفات أهل اليقين 
1- أنهم هم الذين يؤمنون بالغيب

قال تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 1
فأهل اليقين يؤمنون بالبعث والجزاء والحساب والجنة والنار، لذا فإن الحياة بما فيها وبمن فيها تهون في أعينهم أمام مرضاة الله تعالى وانتظار الجزاء الأوفى منه سبحانه، ولقد تعلم الصحابة الكرام هذا اليقين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينما انطلق رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بَخٍ. بَخٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ. بَخٍ ؟ قَالَ: لاَ وَاللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ، إِلاَّ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ”. 2
قال الشاعر :     

شَبّوا على عِشق الشهادة والفدا

* ولكل ِ مكرمة ٍ خيول ُ سباقِ 

وتشبثوا بعُرى اليقين وكلمـــــــا

* جاش  الغُزاة ُ تشمّروا عن ساقِ

2- أنهم هم الذين يوقنون بأن الرزق بيد الله وحده

ومن صفات أهل اليقين التيقن الكامل بأن الرزق ليس بيد أحد من البشر وإنما هو بيد الله تعالى وحده، قال سبحانه: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ. وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ. فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ3
لذا تجدهم ينفقون ويتصدقون ولا يخشون الفقر والإقلال، ويعطون ويبذلون عن إيمان ويقين، روى عن حَيْوَة بن شريح التجيبي، الفقيه، المحدث، الزاهد، وهو من رواة الحديث الثقات، كان يأخذ عطاءه في السنة ستين ديناراً، فلا يفارق ذلك المكان الذي أخذ فيه العطاء حتى يتصدق بها جميعاً، فكان إذا جاء إلى منزله وجد الستين ديناراً، تحت فراشه، فبلغ ذلك ابن عم له، فتصدق لعطائه جميعا أراد أن يفعل مثل حيوة، وجاء إلى تحت فراشه فلم يجد شيئاً! فذهب إلى حيوة وقال: أنا تصدقت بكل عطائي، ولم أجد تحت فراشي شيئاً، فقال له حيوة: أنا أعطيت ربي يقيناً، وأنت أعطيته تجربة. يعنى: أنت كنت تريد أن تجرب، وتختبر ربك، فتصدقت، لتنظر النتيجة، وأما أنا فأتصدق وأنا راسخ اليقين بما عند الله عز وجلّ من الجزاء والعوض. 4
اجتمع حذيفة المرعشي وسليمان الخواص ويوسف أسباط فتذاكروا الفقر والغنى وسليمان ساكت فقال بعضهم: الغنى من كان له بيت يكنه وثوب يستره وسداد من عيش يكفه عن فضول الدنيا وقال بعضهم: الغنى من لم يحتج إلى الناس فقيل لسليمان: ما تقول وأنت يا أبا أيوب فبكى ثم قال: رأيت جوامع الغنى في التوكل ورأيت جوامع الشر من القنوط والغنى حق الغنى من أسكن الله قلبه من غناه يقينا ومن معرفته توكلا ومن عطاياه وقسمه رضى فذاك الغنى حق الغنى وإن أمسى طاويا وأصبح معوزا فبكى القوم جميعا من كلامه. 5
قال أبو حازم رحمه الله: “وجدت الدنيا شيئين: فشيء هو لي، وشيء لغيري، فلو طلبته بحيلة السماوات والأرض؛ لم أصل إليه، فيُمنع رزق غيري مني كما يُمنع رزقي من غيري”.
قال الشاع :                          

توكلت في رزقي على الله خالقــي

* وأيقنت أن الله لا شك رازقي وما يكون من رزقي فليس يفوتني

* ولو كان في قاع البحار العوامق سيأتي به الله العظيم بفضلــــــــــه

* ولو لم يكن مني اللسان بناطقففي أي شيء تذهب النفس حسـرة

* وقد قسم الرحمن رزق الخلائق

3- أنهم هم الذين لا يزيغون عن الحق ولا تتشابه عليهم الأمور

قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ 6.
فأهل اليقين الحق عندهم واضح وضوح الشمس، لذا فهم لا يراءون ولا ينافقون، دخل هشام بن عبد الملك الملك الأموي الكعبة، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم، فقال له: “سلنى حاجة قال: “إني لأستحي من الله أن أسال في بيته غيره”. فلما خرجوا قال له: “فالآن سلني حاجتك، فقال سالم: من حوائج الدنيا أم حوائج الآخرة؟ قال: “بل من حوائج الدنيا” قال: “والله ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسأل من لا يملكها!.”.
4- أنهم هم الذين يحكمون شرع الله تعالى في جميع أمورهم
قال تعالى: أفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ 7
وأهل اليقين يحكمون شرع الله تعالى في جميع أمورهم، فلا يحكمون الهوى ولا الطاغوت، ويجاهرون بكلمة الحق لعلمهم أن الأرزاق والآجال بيد الله تعالى وحده، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ”. 8
قال الشاعر:                        

 لا تجزعي إن الفؤاد قد امتطى * * * ظهر اليقين وفي معارجه ارتقى غذيت قلبي بالكتاب وآيـــــــــه * * * وجعلت لي في كل حق منطقـــا ووطئت أوهامي فما أسكنتهـــا * * * عقلي وجاوزت الفضاء محلقـــا

5- أنهم هم الذين يتخذون القرآن الكريم سراجا ومنهجا 

قال تعالى: وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ سورة السجدة: 40.
فأهل اليقين يدورون مع القرآن حيث دار يتخلقون بأخلاقه ويقفون عند حدوده، فهذا عمر رضي الله عنه حفظ سورة البقرة في اثنتي عشرة ستة، كانوا رضي الله عنهم يحفظون خمسا لا يجاوزونها حتى يعملوا به.
6- أنهم هم الذين بآيات الله يوقنون وفي إعجازها يتفكرون

قال تعالى: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ. 9
وقال سبحانه عن إبراهيم عليه السلام: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. 10
فمن صفات أهل اليقين أنهم يتفكرون في ملكوت الله ويرون إعجاز الله في خلقه، عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقال عبد الله بن عمير: حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي قالت: قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض وجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟ لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: إن في خلق السماوات والأرض. 11
قال الشاعر

 تأمل في نبات الأرض وانظر * * * إلى آثار ما صنع المليــــك عيون من لجين شاخصــــــات * * * وأزهار كما الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهــدات * * * بأن الله ليس له شريـــــــك 7- أنهم هم الذين يوقنون بأن النفع والضر بيد الله

قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 12
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، يَوْمًا فَقَالَ: يَا غُلأَمُ، إني اُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إذا سَأَلْتَ، فَاسْأَلِ اللَّهَ، وإذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله، وَاعْلَمْ أَنَّ الأمة لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بشيء، لَمْ يَنْفَعُوكَ إلا بشيء قَد ْكَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بشيء، لَمْ يَضُرُّوكَ إلا بشيء قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ. 13
وعَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَنَّ جَابِرَ ابْنَ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ؛ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَفَلَ مَعَهُمْ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ يَوْمًا، فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ، يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَظِلُّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، قَالَ جَابِرٌ: فَنِمْنَا بِهَا نَوْمَةً، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَا، فَأَتَيْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفَهُ، وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ فَقُلْتُ: اللهُ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: اللهُ، فَشَامَ السَّيْفَ، وَجَلَسَ، فَلَمْ يُعَاقِبْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ”. 14
ولما أراد سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه أن يعبر دجلة إلى المدائن، وقطع الفُرْسُ عليه الجسر، وحازوا السفن؛ نظر سعد في جيشه، فلما اطمأن إلى حالهم، اقتحم الماء، فخاض الناس معه، وعبروا النهر فما غرق منهم أحد، ولا ذهب لهم متاع، فعامت بهم الخيل وسعد يقول: “حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصُرَّنَ الله وليَّه، وليُظْهِرَنَّ الله دينه، وليهزمن الله عدوه؛ إن لم يكن في الجيش بَغْيٌ أو ذنوب تغلب الحسنات”15
ولما نزل خالد بن الوليد رضى الله عنه الحيرة، فقيل له: “احذر السم لا تسقك الأعاجم، فقال: “ائتوني به، فأُتي به، فالتهمه، واستفه، وقال: بسم الله، فما ضره”. قال الذهبي رحمه الله: “هذه والله الكرامة وهذه الشجاعة”. 16
8- أنهم هم الذين يوقنون بالقضاء والقدر

قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 17
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: “الرِّضَا أَنْ لَا تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَلَا تَحْمَدَ أَحَدًا عَلَى رِزْقِ اللهِ، وَلَا تَلُمْ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ، فَإِنَّ الرِّزْقَ لَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ، وَاللهُ بِقِسْطِهِ وَعِلْمِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضَا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ “. 18
يُذكر أن أعرابية فقدت أباها ثم وقفت بعد دفنه فقالت: يا أبتي، إن في الله عوضاً عن فقدك، وفي رسوله صلى الله عليه وسلم من مصيبتك أسوة. ثم قالت: ربي لك الحمد، اللهم نزل عبدك مفتقراً من الزاد، مخشوشن المهاد، غنياً عما في أيدي العباد، فقيراً إلى ما في يدك يا جواد، وأنت يا ربي خير من نزل بك المؤملون، واستغنى بفضلك المقلون، وولج في سعة رحمتك المذنبون، اللهم فليكن قرى عبدك منك رحمتك، ومهاده جنتك ثم انصرفت راضية محتسبة.
قال الشاعر:

يُضيء لَنَا نُورُ اليَقِين سَبيلَنَا * * * فَتَنْزاحُ عَنَّا غُمَّةٌ وعَوَاثِرُ

وهذه محاورة وقعت بين الحسن بن على رضى الله عنه، وبين من نقل كلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: أبو ذر رضى الله عنه كان يقول: “الفقر أحب إليّ من الغنى، والسقم -يعني المرض- أحب إلي من الصحة” فلما بلغ ذلك الحسن بن على رضى الله عنه قال: “رحم الله أبا ذر، أمّا أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له؛ لم يتمنَّ شيئاً”.
9- أنهم هم الذين يستعدون للموت والحساب
قال تعالى: طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ. هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ 19
فأهل اليقين حينما يؤمنون بالموت والحساب فإنهم يستعدون لذلك بالأعمال الصالحة ويوقنون تماما أنهم مقبلون على رب يحاسب على الصغيرة والكبيرة.
قال الشاعر :

هو الموت ما منه ملاذٌ ومهربُ * * * متى حطَّ ذا عن نعشه ذاك يركبنشاهد ذا عين اليقين حقيقـــــــةً * * * عليه مضى طفلٌ وكهلٌ وأشـــيبولكن على الران القلوبُ كأنَّنـــا * * * بما قد علمناه يقيناً تُكـــــــــــــذّبنؤمِّلُ آمالاً ونرجو نتاجهـــــــــا * * * وعلَّ الرَّدى مما نُرجيه أقـــــرب

يقول أحدهم: “رأيت الجنة والنار حقيقة. فقيل له: كيف رأيتها حقيقة؟ قال: “رأيتها بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيتي لها بعينه آثر عندي من رؤيتي لها بعيني؛ فإن بصري قد يطغى ويزيع بخلاف بصره صلى الله عليه وسلم”.
10- أنهم هم الذين يحسنون الظن بالله
قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. 20
فهم بيقينهم يحسنون الظن بربهم ويعلمون أنهم مقبلون على رب رحيم يستر ويغفر. عنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِىِّ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِى مَعَ ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ، فَقَالَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّجْوَى فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُدْنِى الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَي رَبِّ. حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى في نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ21
عن الحسن قال: ما أيقين عبد بالجنة حق يقينهما إلا خشع ووجل وذل واستقام واقتصر حتى يأتيه الموت. 22
قال الشاعر :

يَا رَبِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثــْرَةً * * * فَلَقَدْ عَلِمْت بِأَنَّ عَفْوَك أَعْظَمُإنْ كَانَ لَا يَرْجُوك إلَّا مُحْسِــــنٌ * * * فَمَنْ الَّذِي يَدْعُو إلَيْهِ الْمُجْـرِمُأَدْعُوك رَبِّ كَمَا أَمَرْت تَضَرُّعًا * * * فَإِذَا رَدَدْت يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَمُمَا لِي إلَيْك وَسِيلَةٌ إلَّا الرَّجَــــــا * * * وَجَمِيلُ ظَنِّي ثُمَّ أَنِّي مُسْلِــــــمُ

اللهم إني أسألك توفيق أهل الهدى وأعمال أهل اليقين ومناصحة أهل التوبة وعزم أهل الصبر وجد أهل الخشية وطلبة أهل الرغبة وتعبد أهل الورع وعرفان أهل العلم. آمين والحمد لله رب العالمين.


[1] سورة البقرة. 3-5.
[2] أخرجه أحمد 3/136(12425) ومُسْلم 6/44(4950.
[3] سورة الذاريات: 20- 23.
[4] سير أعلام النبلاء 11/491.
[5] ابن أبي الدنيا: اليقين 79.
[6] سورة البقرة:118
[7] سورة المائدة: 50.
[8] أخرجه أبو داود (4344).
[9] سورة الجاثية: 3-6.
[10] سورة الأنعام 75.
[11] رواه ابن حبان في صحيحه 2/ 378 السلسلة الصحيحة 1/147.
[12] سورة يونس:107.
[13] أخرجه أحمد 1/293(2669) والتِّرْمِذِيّ2516. الألباني( صحيح ) انظر حديث رقم: 7957 في صحيح الجامع.
[14] أخرجه أحمد 3/311(14387) والبُخَارِي (2910 و2913 و4134) ومُسْلم 7/62 (6015).
[15] تاريخ الطبري 2/462.
[16] سير أعلام النبلاء 1/376.
[17] سورة يس 82-83.
[18] شعب الإيمان للبيهقي 1/384.
[19] سورة النمل: 1-3.
[20] سورة الزمر: 53.
[21] أَخْرَجَهُ أحمد 2/74(5436) و\”البُخَارِي\” 3/168(2441) و\”مسلم\” 8/105(7115).
[22] ابن أبي الدنيا: اليقين 97.