اَلْعَـدْلُ والإحْسـانُ: لا تستعْـدي ولا تستجْـدي

Cover Image for اَلْعَـدْلُ والإحْسـانُ: لا تستعْـدي ولا تستجْـدي
نشر بتاريخ

تفاعلا مع حملة “إنهاء المهام” التي دشنت بها السلطة شوطا من التضييق على العدل والإحسان، أصدرت الجماعة بيانا جددت فيه الموقف من نمط تدبير النظام لشؤون العباد والبلاد مذكرة باصطفافها مع قضايا الشعب ومطالبه في الحرية والكرامة والعدالة ومستنكرة استهداف مجموعة من أطرها في العديد من القطاعات على امتداد ربوع البلاد، دون احترام للمساطر المعمول بها؛ بيانٌ وإن تعددت قراءاته لم يحِدْ عن ثوابت الجماعة: سلمية ووضوح وتمسك بالمقاربة التشاركية تعاونا مع الفضليات والفضلاء لبناء جبهة مجتمعية تتصدى للفساد وتروم اجتثاث الاستبداد.

وإذا كانت مضامين البيان مألوفة في خطاب الجماعة، فقد سرقت بعض العبارات/المواقف الأضواء واستفزت ـ بالمعنى الإيجابي للكلمة ـ المتتبعين وتُـدووِلت في مواقع التواصل الاجتماعي بشكل كبير، ومنها على الخصوص عبارة “لسنا في ضيعة أحد”، وعبارة “لا نستعدي ولا نستجدي”. ترى ما هي دلالات العبارتين/المفتاح في بيان مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان؟

1.    “لسنا في ضيعة أحَـدٍ”:

وردت العبارة في الفقرة الأولى من البيان التي خلصت إلى أن قرار الإعفاءات التي استهدف مجموعة من أطر الجماعة “حملة مخابراتية موغلة في التخلف” تعكس مستوى تخبط النظام وارتباكه في تدبير مرحلة ما بعد 7 أكتوبر، وتكشف كنه نظام تحكمي يرى الشغل والسكن والصحة وسائر الخدمات الاجتماعية، كما الحقوق السياسية والحريات العامة، ومنها حرية الانتماء، منة وعطاء مخزنيا يُستفاد منها بدرجة الانبطاح و”التسبيح” بحمد النظام والتوقيع لاختياراته على بياض. والحال أن الحقوق والحريات العامة وسائر الخدمات الاجتماعية من مقتضيات المواطنة. 

فتعرية لهذا الواقع السياسي الهُلامي التحكمي جوهرا المتسربل بشعارات “دولة الحق والقانون” و”دولة المؤسسات” و”فصل السلط” زورا وبهتانا وتعمية، جاء التوصيف دقيقا مُدققا يربأ عن معجم التعويم والتغليط مُسميا الأمور بأسمائها “فالوظيفة والشغل حق مستحق بالجهد والكفاءة وليس منّة من أحد، ولسنا في ضيعة أحـد”، وبالتالي فسلب الناس حقوقهم والتضييق عليهم أرزاقا أو حرياتٍ جُرْمٌ واعتداءٌ يرقى لإرهاب دولة، ومؤشر على بوار وإفلاس مشروع لا يخجل من خلع أوصاف على نفسه من قبيل: حداثي، ديمقراطي، والحال أن بينه وبينها مسافات ضوئية.

“لسنا في ضيعة أحد”، تعيد طرح السؤال حول طبيعة الدولة التي يقترحها النظام، أهي دولةُ مواطَنةٍ على أساس الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص في إطار قوانين تجري على الجميع بصرف النظر عن الاختيارات الفكرية والسياسية، أم هي دولة الرعايا والخدَم حيث تعتبر الحقوق مِنّة وكرما من الحاكم؟

“لسنا في ضيعة أحد” عبارة/موقف تنهل من الثقافة الشعبية، حيث تقابلها عبارات بحمولات دلالية بليغة وبصيغ حسب اللهجات المحلية تتفق في معاني الاستقلالية والكبرياء وعزة النفس، وكلها قيم لا يتسع لها صدر الاستبداد.

2.    “لا نستعدي ولا نستجدي”:

وردت العبارة الثانية/المفتاح في البند/الإعلان الثامن للبيان الذي توجه بالشكر لكل الفضلاء وذوي المروءات من سياسيين وحقوقيين ونقابيين وإعلاميين عن موقفهم الشاجب لقرار إعفاء ثُلة من أطر جماعة العدل والإحسان من مهامهم الإدارية على خلفية الانتماء والاختيار السياسي؛ ذات البند حذر المترددين في الانحياز لجبهة التصدي للفساد، معتبرا “أن الاستبداد لا صديق له”، ليخلص البيان أن الجماعة “لا تستعدي”، فالاستعداء ليس من مفردات مشروعها، انسجاما مع طبيعتها الدعوية. والدعوة رفق وحِلم وصبر ومصابرة واحتمال للأذى من أجل بناء مجتمع العمران الأخوي. لذلك، فالجماعة ليست صدامية ولا تؤمن بالصدام والصراع أسلوبا، وعيا منها أن الصدامية نار وفتنة تأتيان على الأخضر قبل اليابس، وهي بذلك فوّتت فرصا كثيرة على من تمنوا انجرار الجماعة لمربع العنف ليسهل النيل منها، لكن مسعاهم خاب ويخيب توفيقا وسدادا منه جل وعلا.

الجماعة “لا تستجدي” إحسانا ورضا مخزنيا، ولن تلين لها قناة صدعا بالحق وفضحا للفساد وانحيازا لقضايا الشعب. و”لا تستجدي” أحدا نيلا لحقوقها اقتناعا منها بشرعيتها في الوجود ابتداء، وفي العمل والإسهام مع فضلاء البلد في التحرر من نَيْر الاستبداد انتهاء.

وإذا كان الاستعداء والنزوع للصدامية انتحارا سياسيا، فإن الاستجداء إجهاض للمشروع الانعتاقي ووأدٌ لأمل أمة تراهن على نخبها الواعية لقيادة مسيرة الإصلاح. الاستجداء ارتماء بوعي أو بدونه في أحضان الاستبداد تحت مسميات ومسوغات من قبيل التدرج والإصلاح من الداخل، وانخراط في مشروعه بدعوى المحافظة على الاستقرار. الاستجداء بلغة قرآنية واضحة رُكُـونٌ إلى الذين ظلموا. يقول الحق سبحانه محذرا: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم من دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ. لا ينصرُ من انحاز إلى الاستبداد وتنكر لحق الشعب في الحرية والكرامة والعدالة.

الجماعة “لا تستجدي” يقينا منها أن العاقبة للمتقين والاستخلاف ووراثة الأرض للصالحين، و“أن الأنظمة المستبدة ـ يُذكِّـرُ البيانُ ـ مهما يطـُلْ أمدها ومهما تعْـلُ في الأرض فهي إلى زوال، … وأن من سنته سبحانه أن حركة التاريخ إلى الأمام وليست إلى الوراء”.

في كلمة، الجماعة ترفض أن تُدبَّـر شؤون العباد والبلاد بمنطق الضيعة المُحيل على القرون الوسطى الإقطاعي. والجماعة تنبذ العنف والصدامية أسلوبا للتغيير والإصلاح، كما تنأى بنفسها عن الاستجداء ومقايضة حقوقها بتليين مواقفها من الاستبداد والتنكر لمطالب الشعب.