ما كاد سيدي شعيب يفرغ من وضوئه، حتى سمع جلبة بالخارج، كان المنادي يصيح بأعلى صوته، وهمهمات الناس تتصاعد في السماء. دخل سيدي شعيب خلوته للتعبد والتبتل، كعادته، ريثما يحين وقت الدرس والإقراء، وعند اقتراب فراغه جاءه تلميذه بالخبر اليقين .
– السلام عليكم سيدي.
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. ماذا يحدث بالخارج يا غلام؟
– إنه منادي الجهاد يا سيدي.
– منادي الجهاد! من أين أتى؟
– لقد استشرى الحقد الصليبي في أرض الأنبياء، وعاث أصحاب الصليب في الأقصى فسادا، لم يرحموا طفلا ولا شيخا ولا امرأة. لقد دمروا المساجد، بل أحرقوها، ودنسوها..
طأطأ سيدي شعيب رأسه متهمما، ثم تابع تلميذه: “لقد نادى القائد صلاح الدين الأيوبي في كافة المسلمين أن هلموا للجهاد. ولقد تطوع العديد من المسلمين من بقاع شتى في جيش الناصر صلاح الدين، لقد باتت الحاجة ملحة للجهاد، يجب أن يجتمع المسلمون لنصرة بيت المقدس وأكنافه، فقد تكالب الفرنجة مع بعضهم البعض ليسحقوا ما تبقى منا.
لم ينطق سيدي شعيب ببنت شفة ولم تفارق عيناه الأرض، وظل تلميذه ينتظر ردا أو جوابا لما تفوه به، لكنه لم يقل شيئا. صلى ركعتين ثم انطلق إلى درس الفقه.
جلس في مجلسه وقد التف حوله المئات من تلامذته، منتظرين الدرس، مجتمعين وملتفين بأدب وخشوع ومحبة حول أستاذهم ومربيهم الذي حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم وقف مخاطبا الجموع المحتشدة بكل قوة وغضب:
“ألا إن الله قد فرض عليكم الفرائض، وجعل صحتها شرط لقبولها، ولقد تعلمتم منذ أمد فرائض دينكم، ودرستم التوحيد والعقيدة، وعَلِمتم أن الجهاد ركن من أركان الدين، وأن مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
ألا إن إخوة لنا قد نزل بهم البلاء، وتداعى عليهم الصليبيون كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. ألا إن حرمات الله تنتهك بالمسجد الأقصى، أولى القبلتين ومسرى رسولنا صلى الله عليه وسلم..
ألا إن داعي الجهاد قد نادى فينا أن هلموا لنجدة أرض المعراج، وتلقينا استغاثة القائد صلاح الدين يدعونا لنصرته ومؤازرة جيشه.
ألا وإني أول المجيبين، وإني والله لناصر المسلمين المستضعفين على الفرنجة الغاصبين.
اللهم إني قد بلغت. اللهم فاشهد”.
فتعالى صوت أحد التلاميذ: “وإنا والله على دربك لسائرون، ولنصرة الحق جاهزون، ولنداء الجهاد مُلَبُّون”.
تجهز جيش سيدي أبو مدين شعيب مع جموع التلاميذ والمريدين، من التكايا والزوايا والرباطات، من محاريب العبادة والذكر والتهجد، نحو أرض الإسراء، منطلقين من المغرب الأقصى إلى المسجد الأقصى.
دافع الجيش المغربي بشراسة الأسود، لم يخافوا عدوا، ولم يركنوا لاستسلام أو راحة، باستماتة الفاتحين وإيمان الأولياء الصالحين، على درب الأنبياء والمرسلين.
لم يختبئوا في زواياهم مخافة أن يُدَنَّس ثوبهم بالدماء. لم يعتزلوا إخوانهم فتركوهم فريسة للأعداء. لم يعتكفوا في محاريب الطاعة، تاركين محارم الله تنتهك بيد الصليبيين الحاقدين الدمويين. حملوا سيوفهم كما حملوا من قبل سبحاتهم.
إنه الغوث الذي يحضر لحظة الاستغاثة، والعون الذي يأتي ملبيا نداء الاستعانة.
وهكذا تحرر الأقصى، وعادت الأرض المقدسة لأصحابها، بعد أن لبى المسلمون نداء الجهاد، وعندما طاف صلاح الدين بالمعسكرات يوقظ النيام. فطُهِّرت من دنس الفرنجة الغاصبين، وانتهت الحرب وبدأ الإعمار من جديد. وتزوج بعض تلامذة سيدي أبي مدين بالمقدسيات، وغرسوا الأرض بالزيتون، وانتشرت داليات العنب كنبتة لبلاب متسلقة فناءات البيوت..
“أسكنت هنا من يثبتون في البر ويبطشون في البحر، وخير من يؤتمنون على المسجد الأقصى وعلى هذه المدينة” هكذا قال الناصر صلاح الدين الأيوبي عن المغاربة عندما شهد منهم ما شهد من قوة وإيمان ورباطة جأش..
أصبح للمغاربة باب من أبواب الأقصى، سُمِي باسمهم، ولهم في القدس حارة تطل على ساحة البراق، أصبحوا نسيجا من المجتمع المقدسي..
اطمأن سيدي أبو مدين شعيب على أرض الإسراء، وعلى تلامذته الذين اختاروا العيش والاستقرار هناك، وقرر العودة إلى موطنه، حيث مجلسه ودرسه ومحرابه. فقد انتهت مهمته في أرض الرباط وآن أوان رحيله.
جهز خيله وعدة سفره منطلقا وسط الجموع التي احتشدت لوداعه وسط الدموع والنحيب، تعالت أصوات الناس تستجديه البقاء، وقد ألفوا دروسه ووعظه، وقبلها جهاده المستميت في سبيل تحرير الأرض المقدسة؛ “يا غوث.. يا غوث.. نستحلفك بالله أن تمكث معنا”، “يا أبا مدين.. هلا رحمت قلوب محبيك ومريديك وأقمت بيننا”.
كل ينادي ويستجدي الولي الصالح الذي دفن ذراعه في أرض المعراج، ومضى من حيث أتى.
دفن جزءا من جسده في هذه الأرض دفاعا عنها، لتنبت سيوفا تحارب عن حرمة المسلمين، وأشواكا تجرح أيادي الغاصبين، وعلقما في حلوق الخانعين.. وعاد ليستأنف ما كان عليه من تربية وتعليم وتزكية.
عاد بعد أن لبى نداء الجهاد وأصبحت راية الإسلام خفاقة فوق أسوار المسجد الأقصى..
“يا عابدَ الحرمَين لو أبصَرتَنا
لعَلِمتَ أنّك في العبادَةِ تلعَبُ
من كان يخضِبُ خدّه بدموعِه
فنُحورُنا بدمائِنا تَتَخَضَّبُ
أو كانَ يتعِبُ خيلهُ في باطل
فخيولُنا يومَ الصبيحَةِ تتعبُ
ريحُ العبيرِ لكُم ونحنُ عبيرُنا
رهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيَبُ
ولقد أتانا من مقالِ نبيّنا
قول صحيحٌ صادقٌ لا يكذبُ
لا يستوي غبارُ خيل اللَه في
أنف امرئٍ ودخانُ نارٍ تلهبُ
هذا كتابُ اللَه ينطق بينَنا
ليس الشهيدُ بمَيّتٍ لا يكذبُ”