بعد مرور عام على طوفان الأقصى.. الرئيس الفرنسي “ماكرون” يغرد..

Cover Image for بعد مرور عام على طوفان الأقصى.. الرئيس الفرنسي “ماكرون” يغرد..
نشر بتاريخ

ليس غريبا أن تأتي تغريدة الرئيس الفرنسي منسجمة ومتناغمة مع سياسة بني قومه المؤيدة للأطروحة الإسرائيلية، فبعد مرور عام على طوفان الأقصى وفي تغريدة له على موقع إكس يظهر فيها “إمانويل ماكرون” تضامنه ومواساته لإسرائيل: “لا يزال الألم واضحا كما كان قبل عام، آلام الشعب الإسرائيلي لنا آلام الإنسانية الجريحة، ولا ننس الضحايا أو الرهائن أو العائلات المنكسرة القلوب من الغياب أو الانتظار أرسل لهم أفكارنا الأخوية“.

تدوينته هاته التي تقطر حنانا وعطفا وإنسانية تجاه الإسرائيليين المحتلين المجرمين، وتعبر عن رقة مشاعر الرئيس تجاه الضحايا والقلوب المنكسرة لـ”الشعب الاسرائيلي”، تأتي بعد مرور عام على طوفان الأقصى وارتفاع أكثر من خمسين ألف شهيد ضحايا الإبادة الجماعية التي ترتكبها الآلة العسكرية للكيان الغاصب بدعم من البلدان الغربية، تغريدة تقطر “إنسانية ورقة”، أما الشعب الفلسطيني المكلوم فلا بواكي له لأنه لا يدخل ضمن “آلام الإنسانية الجريحة“.

لا غرابة في ما حملته تغريدة ماكرون لأنها تعبر بكل وضوح عن سياسة الانحياز لصالح الاحتلال الصهيوني، انحياز ينسجم مع مواقف السياسة الفرنسية في المنطقة منذ عقود، إذ المواقف أثناء الحروب تكون أكثر وضوحا من التصريحات المنافقة والخداعة التي تلوكها الألسنة في دهاليز المؤتمرات واللقاءات والبروتوكولات الديبلوماسية.

فعقب السابع من أكتوبر 2023 تبخرت المطالبات الفرنسية بحل الدولتين وإنهاء الاحتلال ووقف الإستيطان، وهي المطالب التي رفعها زعماء فرنسيون من ديجول إلى فرنسوا ميتران وجاك شيراك، فبعد أربعة وثلاثين عاما من تأسيس دولة الاحتلال زار أول رئيس دولة للجمهورية الخامسة “فرانسوا ميتران” إسرائيل ليؤكد صداقة الشعب الفرنسي للشعب الإسرائيلي والاعتراف بدولة فلسطين وفق حدود 1967. وفي أكتوبر 1996 قام جاك شيراك بزيارة رام الله بالضفة الغربية لإلقاء خطاب السلام والتأكيد على ضرورة حل الدولتين للخروج من الأزمة.

وبعد طوفان الأقصى قام الرئيس ماكرون بزيارة تضامن ومواساة خاطفة للكيان الغاصب صرح خلالها قائلا: “أولويتنا وأولوية كل الديمقراطيات وفرنسا هي الانتصار على المجموعات الارهابية”، وبهذا يكون ماكرون قد انفلت من السياسة الدغولية التي طبعت الفترة السابقة من تاريخ فرنسا وإن كانت الخطابات السياسية لا تغير شيئا من سياسة التغول الصهيوني في المنطقة.

واسترسالا في بيان المواقف الفرنسية لمن ما يزال يتوسم من السياسة الفرنسية أن توقظها شعاراتها ومبادئ ثورتها لتقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، أذكره أن فرنسا كانت من أوائل الدول التي اعترفت بـ”دولة إسرائيل” في سنة 1949. وقبل ذلك بسنتين صوتت باريس لصالح قرار الأمم المتحدة الرامي إلى تقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية.

كما أنها كانت قبل ذلك من الدول الداعية والمؤيدة، بل والداعمة لتوطين اليهود في فلسطين، وقد ساهمت في إنعاش حركة الهجرة اليهودية المنظمة إلى فلسطين في ثمانينات القرن التاسع عشر بإيعاز من منظمة “أحباء صهيون” وبدعم من البارون الفرنسي “إدموند دي روتشيلد” الذي نقلت إسرائيل جثمانه من فرنسا إليها اعترافا بجهوده في توطين اليهود في فلسطين.

وزيادة في إنعاش الذاكرة التاريخية يكفي التنبيه إلى أن فرنسا قد أصدرت وعدا لليهود مؤيدا للمشروع الصهيوني في فلسطين قبل خمسة أشهر من صدور وعد بلفور البريطاني في نونبر 1917، حيث أعلنت الخارجية الفرنسية في يونيو 1917 عن تعاطفها مع المشروع الصهيوني في فلسطين. وطبعا فقد تجسد هذا الموقف الاستعماري الفرنسي في اقتطاع فلسطين وفق بنود اتفاقية سايكس بيكو 1916 ومنحها لبريطانيا التي سلمتها للصهيونية سنة 1948 غصبا عن ساكنيها الفلسطينيين، لتتحقق بذلك أحلام الصهيونية التي كانت تفتل في مشروعها الاستعماري بأياد فرنسية وبريطانية وأمريكية لينصهر الجميع في إقامة دولة لقيطة على أراض فلسطينية.

 وقليل من الناس من يعرف أن فرنسا، قبل هذا الوعد الفرنسي بـ118 سنة، كانت من المنادين بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد دعا نابوليون بونابارت في سنة 1799 اليهود إلى العودة إلى فلسطين وبناء الدولة اليهودية فيها تحت الحماية الفرنسية يقول: “من نابليون.. إلى ورثة فلسطين الشرعيين، أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد، انهضوا بسرور أيها المبعدون.. سارعوا.. إن هذه هي اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرر لآلاف السنين للمطالبة باستعادة حقوقكم بين شعوب العالم، تلك الحقوق التي سلبت منكم لآلاف السنين وهي وجودكم كأمة بين الأمم وحقكم الطبيعي المطلق في عبادة يهوه طبقا لعقيدتكم علنا وإلى الأبد1، لكن رغبته في” بناء مملكة القدس القديمة” باءت بالفشل بعد هزيمته أمام أسوار عكا.

وفي عام 1860 دعا “إيرنست لاهران” السكرتير الخاص لنابليون الثالث إلى إعادة بناء الدولة اليهودية في فلسطين تحت الحماية الفرنسية وبدعم من رجال البنوك والتجار اليهود في العالم 2، ورغم كونه ليس يهوديا فقد كانت لأفكاره أهمية كبرى في إنعاش الفكر الصهيوني قبل عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل سنة 1897 بزعامة هيرتزل الذي كان مراسلا لإحدى الصحف في باريس.

وقد استغلت الحركة الصهيونية حالة العداء التي يتعرض لها اليهود في أوروبا، لأسباب تاريخية ودينية، للدعاية لمشروعها الاستيطاني وإقناع اليهود بضرورة إنشاء وطن قومي لهم على أراض فلسطينية، ففي الحالة الفرنسية تم استغلال قضية “دريفوس”، الضابط الفرنسي اليهودي الديانة الذي حوكم بتهمة الخيانة في 1895، كمادة دعائية لتبرير الهجرة لتأسيس دولة إسرائيل هروبا من التهميش الذي طال اليهود في القارة الأوروبية، وقد كان لهذه القضية أثر كبير على المجتمع الفرنسي الشديد الحساسية تجاه اليهود.

ومن المعروف أن اليهود يبحثون عن الأقوياء للتحالف معهم واستغلالهم لتحقيق أهدافهم الصهيونية، وهذا ما يفسر تراجع فرنسا عن لعب الأدوار الرئيسية في إقامة الدولة اليهودية لصالح جارتها بريطانيا، يقول الدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي: “في العصر الحديث ابتدأ رهان اليهود على فرنسا فحالفوها، وراحوا يتعلمون الفرنسية، ويعملون في خدمة النفوذ الفرنسي، فلما برزت انكلترا تحولوا إليها..” 3، وهكذا يتنقلون بين العواصم القوية، بعد فرنسا ولندن تحولوا إلى برلين وبقوا بها حتى بعد ظهور هتلر الذي لم يصادر الصحف الصهيونية، ثم تحولوا مرة أخرى إلى لندن، “وبعد الحرب العالمية الثانية أدركوا أن مركز القوة قد تحول إلى أمريكا، فتوجهوا إلى هناك رامين بكل ثقلهم المالي والإعلامي والتنظيمي4.

ورغم تراجع الدور الفرنسي فإن خدماتها معروضة تحت الطلب دعما للمشروع الصهيوني، حيث سهلت هجرة اليهود إلى إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، كما قامت بتوفير الحماية لزعماء تنظيم “هاغناه” الذراع العسكرية للصهيونية، والذين كانوا مطلوبين من بريطانيا لقيامهم بأعمال إرهابية ضدها، كإسحاق شامير وديفيد بن غوريون اللذين لعبا أدوارا سياسية في دولة الكيان، كما أنها شاركت إلى جانب إسرائيل في العدوان الثلاثي ضد مصر في 1956، لتتوج تعاونها مع الكيان بتزويده بتكنولوجيا الطاقة النووية في إطار التعاون العسكري بينهما.

وأكبر خدمة قدمتها فرنسا لإسرائيل هي تمكينها للسردية التاريخية الصهيونية بكل الوسائل، لتساهم بذلك في صناعة رأي عام موال للمزاعم اليهودية، لينطلق المشرع الفرنسي في حمايتها وترسيخها كمسلمة غير قابلة للشك أو النقاش، وذلك بسن قوانين (قانون غيسو 1990) لتجريم كل ما يشكك في السردية الصهيونية، والنتيجة محاكمة مفكريها وجرهم إلى ردهات المحاكم كالأكاديمي الفرنسي “روبير فوريسون” الذي حوكم وجرد من شواهده الأكاديمية لإنكاره محرقة الهولوكوست، كما حوكم المفكر “روجيه جارودي” وحوصر إعلاميا لأنه دحض الأساطير السياسية التي قامت عليها إسرائيل.

والذي يقرأ التاريخ يجد الموقف الفرنسي منسجما مع ذاته ووعوده التي قطعها على نفسه للصهيونية، تمكينا لها في أرض فلسطين، واستمرارا في نهج سياسة استعمارية، ذات جذور صليبية ودينية، تجاه بلدان العرب والمسلمين. ففي تدوينة سابقة نشرها ماكرون عبر حسابه على منصة إكس يعلن فيها دعمه للاحتلال، يقول: “إن الحرب ضد الارهاب هي قضية مشتركة سنواصل متابعتها مع إسرائيل ومع جميع حلفائنا وشركائنا“.

وهذه التصريحات والمواقف التي تأتي تثمينا للتعاون الاقتصادي والعسكري بين الكيان وفرنسا ما كانت لتنكشف لولا طوفان الأقصى، لتجعل فرنسا شريكا للكيان الصهيوني في جرائمه وإبادته لسكان غزة، فما كان لإسرائيل أن تتجرأ على جرائمها لولا التأييد المطلق لها من طرف الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا وفرنسا

والمثير للانتباه أكثر هو منسوب التعبئة المرتفع التي يتميز بها البيت الداخلي الفرنسي دعما وتأييدا لإسرائيل، فبعد ثلاثة أيام من طوفان الأقصى قدم ستة عشر عضوا في مجلس الشيوخ الفرنسي مشروعا إلى المجلس يجرم ويدين كل أشكال التعبير عن إنكار وجود إسرائيل ويثير الكراهية ضدها، واعتبر النائب الذي قدم المشروع أن “شرعية وجود دولة إسرائيل ما تزال غير متفق عليها وتعاني خلافات أصبح من الضروري الآن قمعها جنائيا”، كما خرجت مسيرات يتقدمها سياسيون فرنسيون دعما للكيان الصهيوني.

وباستثناء بعض الشرفاء، لا أحد من السياسيين الفرنسيين يدين جرائم الاحتلال في غزة، لقد حسموا اصطفافهم إلى جانب الكيان الصهيوني منذ زمان، وترجم ذلك على شكل كبسولات داعمة ومقوية لإسرائيل، سياسيا وإعلاميا وقانونيا.

سياسيا عن طريق مواقف الدولة الفرنسية التي تتجسد في رؤسائها وسياسييها، فقد قال “إمانويل فال” رئيس وزراء فرنسا سابقا: “إذا سقطت إسرائيل سقطنا نحن”، وقال “جان كاستيكس” الذي عينه ماكرون رئيسا للوزراء في 2020 بأن “القدس عاصمة أبدية للشعب اليهودي” وهذه كلها عبارات تجد امتدادا لها في تغريدة ماكرون الحديثة.

وإعلاميا عن طريق قلب الحقائق والترويج للدعاية الإسرائيلية والتماهي معها، أما من كان محايدا في تحليله من السياسيين والصحافيين والفنانين فإن قانون “معاداة السامية” له بالمرصاد. ويكفي للتدليل على الانحياز الاعلامي أن مجلة “الاكسبريس” اختارت في الذكرى الأولى للسابع من أكتوبر أن يكون غلافها تحت عنوان عريض: “عام من اشتعال معاداة السامية”. عجبا، لقد أصبحت إدانة جرائم إسرائيل ضد الأطفال والنساء الفلسطينيين يصنف ضمن معاداة السامية، وهي الفزاعة التي ترعب بها الدول الغربية كل من سولت له نفسه الوقوف إلى جانب فلسطين وانتقاد الغطرسة الصهيونية.

ورغم المواقف الرسمية المنحازة والداعمة لإسرائيل، فإن فرنسا لا تخلو من شرفاء يحركهم حسهم الإنساني وتفكيرهم الموضوعي للتنديد بجرائم الكيان الصهيوني والمطالبة بحق الشعب الفلسطيني في الحرية والكرامة، فبمناسبة الذكرى 76 للنكبة نظم آلاف المتظاهرين مسيرة احتجاجية في باريس بزعامة عدد من النواب الفرنسيين عن حزب “فرنسا الأبية” ورؤساء الجمعيات المناصرة للقضية الفلسطينية والطلاب من مختلف الجامعات، وقد تم اتهام القيادية في الحزب “ماتيلد بانوت” بالدفاع عن الإرهاب وألغيت مؤتمرات لزعيم الحزب “جان لوك ميلينشون”. وإلى جانب هؤلاء يصدح صوت فرنسي آخر، من بقايا أصدقاء جاك شيراك ورئيس وزرائه، ورئيس حكومة فرنسية سابق “دومينيك دو فيلبان”، يصدح بصوت عال، منتقدا السياسة الفرنسية، ورافضا لما يقع في غزة، معتبرا ذلك “أكبر فضيحة تاريخية لم يعد أحد يتكلم عنها في فرنسا وفي الإعلام المحلي”. لكن هذه الأصوات تظل نشازا وسط السياسيين الفرنسيين المهووسين بخدمة إسرائيل.

يكفي في الدول الغربية أن ترفع شعار “الحرية لفلسطين” ليتم اتهامك بتأييد الارهاب، وتجد أمامك تهمة “معاداة السامية”، التي تحولت إلى معاداة الصهيونية وإسرائيل، وتتعرض للمضايقات في مصالحك الاقتصادية ومسارك المهني والسياسي والاجتماعي، لتسقط بذلك شعارات حقوق الإنسان، وتتوارى المواثيق الدولية خلف يافطة الدفاع عن الكيان الصهيوني، وهذا كله بفضل طوفان الأقصى الذي مزق الأقنعة، وأزال المساحيق التي تزين الوجه الغربي الكالح السواد، فمن صحا ضميره الإنساني وطالب بحق فلسطين في الحرية يعتبر إرهابيا، أما محاصرة شعب بكامله وتجويعه واغتصاب أراضيه فلا يعتبر إرهابا حسب المنظور الغربي المنحاز للاحتلال.

إن تحليل مواقف الدول الغربية بخصوص القضية الفلسطينية يجعل الواحد منا يقتنع، بل يجزم حالفا، أن الغرب منسجم في مواقفه ومتفان في الدفاع عن دويلته الاستعمارية التي غرزها في قلب العالم الإسلامي، كاستمرار وامتداد لتاريخه الاستعماري والإجرامي الذي لن تنساه الشعوب التي اكتوت بنيرانه الهمجية، حيث تعتبر فرنسا رائدته بامتياز وهي المعروفة تاريخيا بقتلها للأطفال والنساء والرجال في الكهوف حرقا. فكيف نرجو ممن تاريخه ملطخ بدماء الأبرياء أن يستنكر مجازر الكيان الغاصب؟!

 إذا كان قدر فلسطين هو مواجهة عصارة الغرب حقدا ومكرا وعنفا ودموية، فإن واجب المطالبة بالحرية يفرض عليها طريقا واحدا لمواجهة هذا الاحتلال ورفع هذا الظلم وهو سلوك طريق المقاومة والصمود والنضال لكي تنال حقوقها وتحرر أرضها، وعليها، في سبيل ذلك، أن تعول على إمكانياتها، وترفع معنوياتها، متوكلة على الله تعالى الذي وعد بنصر المستضعفين.

وفي الختام، إذا كانت تغريدات ماكرون منسجمة ومتناغمة مع مواقف سربه الإجرامية في حق فلسطين، فإن المستغرب والمستهجن هي تغريدات البلدان العربية والإسلامية التي اختارت أن تكون نشازا لتغرد بعيدا عن تطلعات شعوبها المسلمة، وبعيدا عن القيم والأخلاق الإسلامية، بل وبعيدا عن المشاعر الإنسانية الرافضة للظلم والطغيان.


[1] دور إسرائيل في تفتيت الوطن العريي، د أحمد سعيد نوفل، ط2، ص16.
[2] مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، أمين عبد الله محمود، سلسلة عالم المعرفة عدد74، ص24.
[3] اليهود والتحالف مع الأقوياء، د نعمان عبد الرزاق السامرائي، كتاب الأمة، ص 86.
[4] نفسه، ص 87.