يقول الله تبارك وتعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58].
إن أعظم فضل، وأجلّ رحمة، التي يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يفرح بها، هو العروة الوثقى والنعمة العظمى: رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما أمر الله عز وجل لنا بتذاكر أيام الله تعالى إلا لمعرفة نعمة الله تعالى العظمى علينا، رسول الله عليه الصلاة والسلام، حيث قال الله تبارك وتعالى: وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم: 5].
ومن ثم فإن من أعظم أيام الله تعالى على الإطلاق يوم مولد السراج المنير، الذي أنار الوجود بطلعته البهية، وهو عليه الصلاة والسلام خير البرية والرحمة المهداة للعالمين، سيد الأولين والآخرين والثقلين، النعمة العظمى: رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وبذلك فإن الفرح بيوم عيد مولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من أعظم وأجلّ القربات التي يتقرب بها المؤمن والمؤمنة إلى ربهما تبارك وتعالى، إظهارًا للشكر على نعمة إيجاد العروة الوثقى والنعمة العظمى: رسول الله عليه الصلاة والسلام.
يقول إمام القُرّاء الحافظ شمس الدين بن الجوزي رحمه الله في كتاب عرف التعريف بالمولد الشريف: “رُئي أبو لهب بعد موته في النوم، فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار، إلا أنه خُفّف عني كل ليلة اثنين، فأمصّ من بين إصبعي هاتين ماءً بقدر هذا، وأشار برأس إصبعيه، وأن ذلك بإعتاقي لثويبة عندما بشّرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمّه قد خفّف الله عنه شيئاً من النار لما أظهر من فرحٍ ليلة مولده صلى الله عليه وسلم، فما حال المسلم الموحّد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يحتفل بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم؟ ولعمري، إنما يكون جزاؤه أن يدخله بفضله جنات النعيم”.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتاب لطائف المعارف: “وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن صيام يوم الاثنين فقال: “ذلك يوم وُلدت فيه، وأُنزِلت عليّ فيه النبوّة”، إشارة إلى استحباب صيام الأيام التي تُجدّد فيها نعم الله تعالى على عباده، فإن أعظم نعم الله على هذه الأمة إظهار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبعثته وإرساله إليهم، كما قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ [آل عمران: 161].
فإن النعمة على الأمة بإرساله صلى الله عليه وسلم أعظم من النعمة بإيجاد السماء والأرض والشمس والقمر والرياح والليل والنهار وإنزال المطر وإخراج النبات وغير ذلك، فإن هذه النعم كلها قد عمّت خلقاً من بني آدم كفروا بالله وبرسله وبلقائه فبدّلوا نعمة الله كفراً.
وأما النعمة بإرسال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فبها تمّت مصالح الدنيا والآخرة، وكَمُل بسببها دين الله الذي رضيه لعباده، وكان قبوله سبب سعادتهم في دنياهم وأخراهم. فصيام يوم تجددت فيه النعم من الله على عباده حسن جميل، وهو من باب مقابلة النعم في أوقات تجدّدها بالشكر”.
وقال الإمام قطب الدين القسطلاني رحمه الله تعالى: “ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه الصلاة والسلام، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم. ومما جُرّب من خواص الاحتفال بمولده أنه أمان في ذلك العام، وبُشرى عاجلة بنيل البغية والمرام. فرحم الله امرأً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً”.
وقد ذكرت الروايات التاريخية أنّ أوّل من احتفل بالمولد النبوي الشريف من ملوك الإسلام هو الملك أبو سعيد مظفر الدين المتوفى سنة 680 هـ، ملك أربل بالعراق، وألف له الحافظ ابن دحية رحمه الله تأليفاً أسماه التنوير في مولد البشير النذير، فأجازه الملك أبو سعيد بألف دينار.
وكان يبدأ الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم بدءاً من شهر صفر حتى آخر شهر ربيع الأول، وكان ينفق على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار. وكان له دار ضيافة للوافدين من كل جهة، فكان ينفق على هذه الدار في كل سنة مائة ألف دينار، وكان يذبح خمسة آلاف رأس غنم، وعشرة آلاف دجاجة، عدا الحلوى يقدمها للفقراء والمساكين في تلك المناسبة المباركة.
وقد طال مدة حكمه إلى أن مات وهو محاصر للفرنج بمدينة عكّا ثلاثين وستمائة، محمود السيرة، منصوراً على أعداء الله، حتى لقي ربه راضياً مرضياً، ودُفن بالكوفة بجوار قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فكانت نعم الخاتمة ونعم الجوار”.
قلت: ما شاء الله، وسبحان الله. انظر أيها المحب للرسول عليه الصلاة والسلام، إلى هؤلاء الرجال؛ كيف سيرتهم محبة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ أبو سعيد مظفر الدين رحمه الله مات وهو محاصر للصليبيين بمدينة عكا. واليوم هؤلاء الصليبيون واليهود الصهاينة هم من يحاصر بلاد المسلمين. أي عار نزل بالمسلمين! وإخوانهم المسلمون في غزة يحاصرهم اليهود الصهاينة، والغزاويون الشرفاء يموتون جوعا وعطشا، ولا من يغيث أو ينتصر لهم من حكام المسلمين. حسبنا الله ونعم الوكيل، والله المستعان، وإليه المشتكى، نعم المولى ونعم النصير سبحانه وتعالى.
ولقد أجمعت الأمة المسلمة على اختلاف مذاهبها ومشاربها ومدارسها ومناهجها ومرجعياتها وتصوراتها الفكرية وأساليبها الدعوية والتربوية والحركية، على أن محبة الرسول عليه الصلاة والسلام فرض عين على كل مسلم ومسلمة، وما بلوغ مقامات الإحسان إلا بمحبة الرسول العدنان عليه الصلاة والسلام. فرغم اختلاف المسلمين على فرق وطوائف متباينة، إلا أن الكل يتفق على أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة لا خلاف فيها بين السني والشيعي، وبين الصوفي والسلفي. حتى أعداء الإسلام والمسلمين وخصوم الإسلام والمسلمين عبر تاريخ المسلمين يعلمون جيدا هذه الحقيقة: إن المسلمين على اختلاف فرقهم ومذاهبهم يتفقون ويتوحدون في مسألة محبة الرسول عليه الصلاة والسلام.
يقول هاملتون جب في كتابه “دراسات في حضارة الإسلام”: “ترى المجددين والمقلدين والصوفية والسلفية والعلماء وأفراد الجمهور يلتفون جميعا معا على بقعة واحدة، وقد يرون بين نزعاتهم العقلية تنوعا واسعا متباينا، ولكنهم جميعا وحدة متألفة في إخلاصهم وحبهم لمحمد”.
لذلك فإن أعداء الإسلام والمسلمين سعوا ويسعون حتى الآن بكل الوسائل والأشكال والقدرة على ألا توقظ هذه المحبة في قلوب المسلمين، فتشتعل القلوب محبة لجنابه الشريف عليه الصلاة والسلام، فيستيقظ المسلمون من سباتهم العميق، لأنهم يعلمون جيدا أن مصدر قوة وعزة المسلمين تكمن في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول اليهودي الصهيوني الحاقد على الإسلام والمسلمين بن غوريون: “نحن لا نخش الاشتراكيات ولا الثورات ولا الديمقراطيات في المنطقة، نحن فقط نخش الإسلام، هذا المارد الذي نام طويلا وبدأ يتململ”.
قلت: إنها محبة الرسول عليه الصلاة والسلام التي اشتعلت في قلوب المسلمين اليوم، فاستيقظوا من نومهم العميق، وقاموا قومة مباركة منصورة بإذن الله تعالى نحو الخلافة الثانية على منهاج النبوة الموعودة، والتمكين في الأرض وسيادة العالم من جديد.
ودليل وجوب محبة الرسول عليه الصلاة والسلام قول الله تبارك وتعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24].
وقول الحق عز وجل: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 32].
وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» [متفق عليه].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما اختلط حبّي بقلب عبد فأحبني إلا حرّم الله جسده على النار» [حلية الأولياء لأبي نعيم].
وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ما أعددتَ لها؟» قال: ما أعددتُ لها كثير صلاة ولا صيام، إلا أني أحب الله ورسوله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب» [متفق عليه]. قال أنس رضي الله عنه: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك.
وجاء أعرابي جهوري الصوت فقال: يا محمد، الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب» [أخرجه الترمذي].
إذاً من مجموع هذه الآيات والأحاديث نستنبط أمراً ثميناً ونفيساً: أن المحبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم هم أصحاب العروة الوثقى والنعمة العظمى، فازوا بشرف الدنيا والآخرة، لأن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: «المرء مع من أحب»، فهم مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.
اللهم ارزقنا حبك وحب رسولك صلى الله عليه وسلم وحب أوليائك وأصفيائك من خلقك، وانفعنا بصحبتهم ومحبتهم، وارزقنا حب من أحبك وأحب رسولك، وحب ما يقربنا إلى حبك وحب رسولك، واجعل حبك وحب رسولك صلى الله عليه وسلم أحبَّ إلينا من أنفسنا وأزواجنا وأولادنا والدنيا كلها ومن الماء البارد. اللهم آمين.
ولكن ما حقيقة هذه المحبة التي أوجبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟
– يتبع –