بلوغ المرام في محبة الرسول العدنان (2)

Cover Image for بلوغ المرام في محبة الرسول العدنان (2)
نشر بتاريخ

إن عبارات الناس عن المحبة كثيرة، وقد تكلموا في أصلها في اللغة:

قيل: الحب اسم لصفاء المودة، لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها “حبب الأسنان”.

وقيل: الحباب ما يعلو الماء عند المطر الشديد، فعلى هذا فالمحبة غليان القلب واشتياقه إلى لقاء المحبوب.

وقيل: المحبة مشتقة من الخشبات الأربع التي توضع عليها الجرة، لأنها تتحمل، فكذلك المحب يتحمل العز والذل في سبيل محبوبه.

وقيل: من “الحب” الذي فيه الماء، لأنه يمسك ما فيه، فكذلك القلب إذا امتلأ بالحب لا يسع غير محبوبه. [انظر: الرسالة القشيرية].

أما أقوال المحسنين العارفين بالله تعالى في المحبة فكثيرة:

قال أبو عبد الله القرشي: حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شيء.

وقال دلف الشلبي: سميت المحبة محبة لأنها تمحو من القلب ما سوى المحبوب. وقال أيضاً: المحبة أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك.

وقيل: المحبة ميل دائم بالقلب الهائم.

وقيل: المحبة إيثار المحبوب على جميع المصحوب.

وسئل أحمد بن عطاء عن المحبة فقال: هي أغصان تغرس في القلب فتثمر على قدر العقول.

وقال محمد بن علي الكتاني: المحبة هي الإيثار للمحبوب.

وقال الحسين بن منصور: حقيقة المحبة قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك.

وقال محمد بن الفضل الفراوي: المحبة سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب.

وقال سري السقطي: لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر: يا أنا.

وقيل: المحبة نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب.

وقال الجنيد رحمه الله: كل محبة كانت لغرض، إذا زال الغرض زالت المحبة.

وقال يحيى بن معاذ: مثقال خردلة من الحب أحب إليّ من عبادة سبعين سنة بلا حب.

وقالت رابعة العدوية رحمها الله تعالى:

تعصي الإله وتدّعي حبَّه

لعمري إنّ هذا لفي القياس بديع

إن كنتَ تحبّه حقًّا فأطعه

إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

وروى أبو سعيد أحمد الخراز أنّه قال: يا رسول الله، اعذرني فإنّ محبّة الله تعالى شغلتني عن محبّتك. فقال: يا مبارك، من أحبّ الله تعالى فقد أحبّني.

ويقول الحارث المحاسبي رحمه الله: المحبّة ميلك إلى الشيء بكليتك، ثم إيثارك له سرًّا وجهرا، ثم علمك بتقصيرك في حبّه. (الرسالة القشيرية).

إذًا، فواضح من هذه الكنوز والأقوال البديعة النفيسة أنّ المحبّة حالة شريفة، مصدرها ومنبعها القلب، ومن ثمّ فإنّ محبّة الرسول عليه الصلاة والسلام ليست في مجرّد الاتّباع له، بل المحبّة له عليه الصلاة والسلام هي روح وأساس الاتّباع وباعثه، فلولا المحبّة العاطفية في القلب لما وُجد وازع يحمل على الاتّباع في العمل. والاتّباع والعمل والطاعة تبع الحبّ وثمرته، فلا بدّ أن يتقدّم الحبّ، ثم بعد ذلك يطيع مَن أحبّ.

يقول الشهيد سعيد رمضان البوطي رحمه الله تعالى: (لقد ضلّ – والله – قوم حسبوا أنّ محبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لها معنى إلا الاتّباع والاقتداء، وفاتهم أنّ الاقتداء لا يأتي إلا بوازع ودافع، ولن تجد من وازع يحمل على الاتّباع إلا المحبّة القلبية التي تهزّ المشاعر وتستبدّ بالعواطف).

ويقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى في كتاب “الإحسان” ج1: (في أحضان النبوّة تربَّوا [الصحابة]، ومنها رشفوا واستقوا، حتى تفجّرت في قلوبهم ينابيع الإيمان، تفانوا في الولاء لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فصحبته لهم لم تكن مجرّد امتثال للنصوص وتطبيقًا جافًّا لها، وإنّما هي رابطة قلبية، هي محبّة تثبّت وترسّخ وتنمو وتتجذّر في القلوب بالملازمة والمخالطة [الصحبة]).

ثم إنّ الحبيب رسول الله عليه الصلاة والسلام جعل مقياس بلوغ مقامات الإيمان والإحسان امتلاء القلب بمحبّته عليه الصلاة والسلام، بحيث تكون متغلّبة على محبّة النفس والولد والوالد والناس أجمعين. وهذا يدلّ على أنّ محبّة الرسول عليه الصلاة والسلام من جنس محبّة النفس والولد والوالد والزوجة، أي مصدر كلّ منهما العاطفة والقلب، وإلا لم تصحّ المقارنة والمفاضلة بينهما.

فعن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: (كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبّ إليّ من كلّ شيء إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبّ إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنّه الآن – والله – لأنت أحبّ إليّ من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر) [أخرجه البخاري].

– يتبع –