على امتداد أكثر من أربعة عقود، تجاوزت قضية الصحراء حدود كونها نزاعا إقليميا أو ملفا دبلوماسيا معقدا، لتتحول إلى إحدى العدسات الكاشفة لطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وإلى مجال لإعادة تشكيل مفهوم “الوطنية” كما تمت هندسته في الخطاب الرسمي. فقد رسّخت المقاربة السائدة تصورا محدودا للقضية، قائما على تماهٍ مع الرؤية الرسمية للدولة، بينما بقيت قطاعات واسعة من القوى المجتمعية والفكرية والسياسية خارج دائرة المساهمة الفعلية في بلورة رؤية وطنية جامعة لهذا الملف السيادي.
وفي هذا السياق، ومع صدور بيان جماعة العدل والإحسان المعبّر عن تقديرها لما اعتبرته تطورا مهما في موقف مجلس الأمن الأخير حول الصحراء، يبرز تساؤل مشروع: إلى أي حدّ يمكن لموقف داعم للوحدة الترابية أن يحافظ في الوقت ذاته على مطلب الإصلاح الديمقراطي وتحقيق العدالة الاجتماعية، من دون أن يُفهم -ضمنيا أو صراحة- كنوع من التماهي مع السلطوية أو إضفاء شرعية عليها؟
منذ المراحل الأولى للملف، اتّسم تدبير قضية الصحراء بمنطق انفرادي جعلها تبدو وكأنها “ملف الدولة” أكثر منها قضية وطنية جامعة تعني كل المغاربة. فقد أُحكمت إحاطتها ضمن دوائر ضيقة، ولم يُتح للرأي العام، أو للنخب السياسية والمدنية، الانخراط الطبيعي في نقاشها أو تطوير مقارباتها. وحتى حين فُتح المجال لنقاشات عمومية، جاء ذلك غالبا في إطار تعبئة رسمية موجّهة، غلب عليها منطق التزكية أكثر من التقييم والمساءلة. ومع مرور السنوات، ترسّخت صورة في الوعي العام مفادها أن حماية وحدة التراب الوطني تكاد تكون امتيازا مؤسساتيًا محصورا في جهة بعينها، في حين أن جوهر هذا المسار الوطني إنما صاغه الشعب بتضحيات أبنائه، وموارد بلاده، وأموال ضرائبه.
في هذا السياق، استُثمرت القضية لتعزيز حضور المنظومة الحاكمة في المشهد السياسي، من خلال خطاب يُعيد إنتاج سردية تضعها في موقع “المدافع الأوحد” عن الصحراء، مقابل تهميش لدور المجتمع ومكوّناته. وسعى هذا الخطاب، عبر حضوره المتكرر، إلى تمرير تصورٍ غير معلن مفاده أن “من يحمي الوطن” لا ينبغي أن يكون موضوع مساءلة سياسية، وأن طرح أسئلة الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية في سياق الدفاع عن الوحدة الترابية يُعدّ ضربًا من قلة الوطنية أو خروجا عن الإجماع. وهو خطاب يوحي بأن الديمقراطيات بطبيعتها هشّة أو أقل قدرة على صون السيادة، في حين يبيّن التاريخ السياسي المعاصر أن التعددية والديمقراطية لم تكونا يومًا على حساب قوة الدولة، بل شكّلتا في تجارب عديدة أحد مصادر متانتها واستقرارها.
وقد تعالت عبر السنوات أصواتٌ تنتقد اختزال الملف في مقاربة احتكارية، باعتبار أن ذلك يُفرغه من بعده الوطني الجامع، ويحوّله إلى ملف سياسي مُسيَّج داخل حسابات السلطة. ومن بين هذه الأصوات، سجّلت جماعة العدل والإحسان حضورا لافتا في التنبيه إلى مخاطر هذا النهج، معتبرة أن قضية بهذا الثقل التاريخي والرمزي لا يمكن أن تظل ورقة بيد فاعل واحد، بل يُفترض أن تكون مجالا للتوافق الوطني ومختبرا لبناء رؤية مشتركة للمستقبل.
وعلى امتداد العقود الماضية، حافظت الجماعة على موقف ثابت يدعو إلى مقاربة أكثر انفتاحا، مؤكدة أن تعزيز الإجماع الوطني حول الصحراء لا يمكن أن يتحقّق عبر رواية رسمية مغلقة، بل من خلال توسيع فضاء النقاش العمومي، وإشراك مختلف القوى الوطنية والفكرية والمدنية في بلورة التصورات. فالمقاربة التشاركية، في تقدير الجماعة، هي ما يمنح الملف قوة ومصداقية، ويحصّن الجبهة الداخلية من الاختراق، ويُرسّخ التفافا شعبيا واعيًا حول الوحدة الترابية.
وقد جاءت التطورات الأخيرة في الأمم المتحدة لتتقاطع مع هذا التصور، إذ إنّ الحل السياسي الذي يحظى اليوم بقبول دولي متزايد هو خيار الحكم الذاتي، وهو نموذج يقوم جوهره على توسيع قاعدة المشاركة والتمثيلية المحلية، ويمنح شرعية أكبر لصوت المجتمع في تدبير شؤونه، وهو ما يصعب انسجامه مع منطق سلطوي في الحكم أو مع تصوّر أحادي لإدارة الشأن العام.
ومن اللافت أن الجماعة، رغم خلافها السياسي العميق مع أسلوب الحكم السائد وإدراكها المبكر لتوظيف المنظومة الحاكمة لقضية الصحراء في تكريس مشروعها السلطوي، اختارت عدم الانجرار إلى ردود فعل انفعالية أو إلى توظيف مضاد للملف كورقة ضغط سياسية. فقد حافظت على موقف ثابت يعتبر الوحدة الترابية قضية جامعة تتجاوز حدود الخلاف الداخلي. ولم يمنعها ذلك -رغم إصرار الخطاب الرسمي على نسب كل تقدّم في الملف إلى جهة واحدة وتهميش رصيد التضحيات الشعبية- من التعبير عن تقديرها لما يُحرَز من خطوات إيجابية تراها خادمة للمصلحة الوطنية.
غير أنّ هذا الاتزان لا يعني تنازلا، فالجماعة ترفض، في المقابل، الانخراط في سردية مضللة تؤدي إلى التضحية بمطلب الديمقراطية تحت ذريعة “الظرفية الوطنية”. بل أكدت، بوضوح، أن التلازم بين “السيادة الوطنية على الأقاليم الجنوبية” و”السيادة الشعبية على القرار السياسي” هو أساس أي مشروع وطني قابل للاستمرار. وقد جاء بيانها الأخير بلغة واضحة وحاسمة، يُعبّر عن هذا التوازن، إذ جمع بين “الغيرة على وحدة الوطن” و”الرفض المطلق للفساد والاستبداد”.
وبهذا المعنى، تعيد الجماعة ترتيب معادلة القضية، منتقلةً بها من ضيق المقاربة السلطوية إلى أفق وطني أرحب: فليس المطلوب أن نختار إما دعم الوحدة الترابية أو المطالبة بالديمقراطية، بل إن الخيار الوطني الرشيد يقتضي الجمع بينهما، لأن نجاح أي حلّ -وفي مقدمته نموذج الحكم الذاتي- يظلّ مرهونًا بترسيخ مواطنة كاملة في كل ربوع البلاد. وإن امتلاك هذا الوعي المتبصّر هو ما يمكّن المغاربة من صياغة تعاقد وطني جديد يلبي طموحهم المشترك، عنوانه: وطنٌ قويّ بوحدته، متماسكٌ بديمقراطيته.