مقدمة
يُعتبر بيان جماعة العدل والإحسان الأخير حول قضية الصحراء المغربية من أهم الوثائق السياسية التي صدرت في السنوات الأخيرة، ليس فقط لما يحمله من موقف واضح تجاه قضية الوحدة الترابية، ولكن لما يعبر عنه من نضج في المقاربة النقدية داخل المشهد السياسي المغربي. فالبيان لا يقف في صف الخطاب الرسمي الذي يرى في أي اختلاف تهديدا للوحدة الوطنية، ولا ينخرط في الخطاب العدمي الذي يرفض الدولة برمتها، بل يقدم رؤية ثالثة تجعل من الديمقراطية شرطا للوحدة الوطنية، والعدل أساسا للسيادة الحقيقية
أولا: ثبات في الخطاب والمواقف تجاه القضايا المصيرية للوطن
منذ نشأتها، حافظت جماعة العدل والإحسان على خطاب نقدي جريء تجاه بنية الاستبداد في النظام السياسي المغربي، دون أن تنزلق إلى العدمية أو القطيعة مع القضايا المصيرية للوطن. فالبيان الأخير لا يعبر عن مراجعة أو تعبير عن موقف جديد في الملف، بقدر ما يعيد التأكيد على الثوابت التي انطلقت منها الجماعة، رفض الفساد والاستبداد من جهة، والتمسك بوحدة وسيادة المغرب الترابية من جهة أخرى.
فالجماعة تفرق بوضوح بين الدولة كوطن جامع لكل المغاربة والمخزن كنمط في الحكم يحتكر القرار ويقصي الإرادة الشعبية، وهو تفريق يعبر عن نضج سياسي ووعي استراتيجي راكمته عبر مسارها الطويل في المعارضة السلمية.
وقد برز وضوح هذا التوجه أيضا في الوثيقة السياسية الأخيرة للدائرة السياسية للجماعة، التي شددت على أن معركة العدل والديمقراطية لا تنفصل عن معركة السيادة الوطنية والوحدة الترابية، وأن الإصلاح السياسي هو الطريق إلى حماية الوطن من التفكك والتبعية.
ثانيا: وحدة الأرض لا تنفصل عن وحدة الإرادة
تطرح الجماعة في بيانها فكرة جوهرية، مفادها أنه لا معنى لوحدة ترابية دون وحدة سياسية واجتماعية. فالحكم الذاتي الذي يدعو إليه القرار الأممي، في نظرها، يمكن أن يكون مدخلا لحل واقعي إذا تم في إطار مشروع ديمقراطي شامل يضمن العدل، والمشاركة، والشفافية. بهذا المعنى، تضع الجماعة شرطا تأسيسيا لأي تسوية مستقبلية، أن تكون الديمقراطية هي الأساس الذي تبنى عليه الوحدة الوطنية. فلا سيادة وطنية حقيقية -تقول الوثيقة/البيان- دون سيادة شعبية على القرار السياسي.
ثالثا: نقد التوظيف السياسي للقضية الوطنية
من النقاط الأكثر جرأة في البيان إدانة الجماعة لما سمته “توظيف ملف الصحراء للتغطية على الأزمات الداخلية”، وهي إشارة مباشرة إلى المقاربة الرسمية التي تجعل من “الوحدة الترابية” درعا لتبرير التضييق على الحريات وتجميد النقاش الديمقراطي. إنها بهذا الموقف تعيد الاعتبار إلى المنطق الدستوري والسياسي السليم، فالقضايا الوطنية الكبرى لا تحل بالدعاية، بل بالحكم الرشيد والعدالة الاجتماعية.
رابعا: رفض المساومة بين الوطنية والتطبيع
يأتي البيان في سياق حساس يربط فيه بعض الفاعلين الدوليين بين الاعتراف بمغربية الصحراء واستمرار مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني. لكن الجماعة على خلاف كل البيانات التي أصدرتها مكونات المشهد السياسي المغربي بهذه المناسبة، ترفض هذا الربط رفضا قاطعا، وتعتبره ابتزازا سياسيا وأخلاقيا، وتؤكد أن “الوحدة الوطنية لا يمكن أن تكون على حساب قضية الأمة المركزية، فلسطين.” هنا يتقاطع البعدان الوطني والأممي في خطاب الجماعة، ضمن رؤية توازن بين الوفاء للمبادئ الشرعية والوعي بالتحولات الجيوسياسية.
خامسا: الديمقراطية شرطا للبقاء
جوهر “الرؤية الثالثة” التي تقدمها العدل والإحسان هو أن الديمقراطية ليست ترفا أو مطلبا فئويا، بل شرط وجود الدولة واستقرارها. فالوحدة الترابية لا يمكن أن تستمر في ظل احتقان اجتماعي، وتهميش، واعتقالات، وغياب ثقة بين الدولة والمجتمع. ومن هنا دعوتها في ختام البيان إلى انفراج سياسي حقيقي يبدأ بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي، ويفتح الطريق أمام مصالحة وطنية كبرى تعيد الثقة وتبني دولة جامعة لكل أبنائها.
خاتمة: نحو وطن يتسع للجميع
إن بيان جماعة العدل والإحسان، بهذا التوازن بين الوطنية والمبدئية، يعبر عن لحظة نضج في الفكر السياسي المغربي المعاصر. فهو يقدم مشروع رؤية ثالثة تتجاوز الثنائية القديمة بين “الولاء أو المعارضة”، وتؤكد أن المصلحة الوطنية الحقيقية تكمن في ربط الوحدة الترابية بالتغيير السياسي والديمقراطي. فلا وطن قوي بلا عدل، ولا وحدة بلا حرية، ولا سيادة بلا مشاركة شعبية. وهي معادلة لو استوعبها الفاعلون السياسيون اليوم، لأمكن للمغرب أن يدخل مرحلة جديدة من تاريخه، مرحلة يكون فيها الوطن ملكا لجميع أبنائه، لا حكرا على سلطة أو حزب أو جهة.