بيان المبادرة إلى العمل وحذر آفة التأخير

Cover Image for بيان المبادرة إلى العمل وحذر آفة التأخير
نشر بتاريخ

اعلم أن من له أخوان غائبان وينتظر قدوم أحدهما في غد، وينتظر قدوم الآخر بعد شهر أو سنة، فلا يستعد للذي يقدم إلى شهر أو سنة، وإنما يستعد للذي ينتظر قدومه غدا. فالاستعداد نتيجة قرب الانتظار، فمن انتظر مجيء الموت بعد سنة اشتغل قلبه بالمدة ونسي ما وراء المدة، ثم يصبح كل يوم وهو منتظر للسنة بكمالها لا ينقص منها اليوم الذي مضى، وذلك يمنعه من مبادرة العمل أبدا يرى لنفسه متسعا في تلك السنة، فيؤخر العمل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنًى مُطْغيا، أو فَقْرا مُنْسِيا، أو مرضا مُفْسِدا، أو هَرَما مُقَيِّدا، أو موتا مُجْهزا، أو الدجَّال فالدجال شرُّ غائب يُنْتَظر، أو الساعة (والساعة أدهى وأمر).” 1

وقال ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: “اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك.” 2

وقال صلى الله عليه وسلم: نعمتان مَغْبُون فيهما كثير من الناس: الصّحة والفراغ 3 . أي أنه لا يغتنمهما ثم يعرف قدرهما عند زوالهما.

وقال صلى الله عليه وسلم: “من خاف أَدْلَج، ومن أدلج بلغ المنزل. ألا إن سلعة الله غالية! ألا إن سلعة الله الجنة!.” 4 وقال صلى الله عليه وسلم: “جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، وجاء الموت بما فيه.” 5 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أَنِسَ من أصحابه غفلة أو غِرَّةً 6 نادى فيهم بصوت رفيع: “أتتكم المَنِيَّةُ راتبة لازمة إما بشقاوة وإما بسعادة.” 7

وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنا النذير والموت المغير، والساعة الموعد.” 8

وقال ابن عمر رضي الله عنهما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والشمس على أطراف السَّعَف 9 ، فقال: “ما بقي من الدنيا إلا كما بقي من يومنا هذا في مثل ما مضى منه.” 10

وقال صلى الله عليه وسلم: “مثل الدنيا كمثل ثوب شُق من أوله إلى آخره، فبقي متعلقا بخيط في آخره، فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع.” 11

وقال جابر رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب فذكر الساعة رفع صوته واحمرت وجنتاه كأنه مُنْذِر جيش يقول صبحتكم ومسيتكم: “بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين” 12 . وقرن بين أصبعيه.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، فقال: “‘إن النور إذا دخل الصدر انفسح’، فقيل: يا رسول الله، هل لذلك من علامة تعرف؟ قال: ‘نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله’.” 13

وقال السدي رحمه الله: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، أي: أيكم أكثر للموت ذكرا، وأحسن له استعدادا، وأشدّ منه خوفا وحذرا.

وقال حذيفة رضي الله عنه: “ما من صباح ولا مساء إلا ومناد ينادي: أيها الناس، الرحيل الرحيل!” وتصديق ذلك قوله تعالى: إنها لأحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخرفي الموت.

وقال سحيم رحمه الله مولى بني تميم: جلست إلى عامر بن عبد الله وهو يصلي فأوجز في صلاته، ثم أقبل علي فقال: أرحني بحاجتك فإني أبادر. قلت: وما تبادر؟ قال: ملك الموت رحمك الله، قال: فقمت عنه وقام إلى صلاته.

ومَرَّ داود الطائي رحمه الله فسأله رجل عن حديث فقال: دعني، إنما أبادر خروج نفسي.

قال عمر رضي الله عنه: التُّؤَدَة في كل شيء خير إلا في أعمال الخير للآخرة.

وقال المنذر رحمه الله: سمعت مالك بن دينار رحمه الله يقول لنفسه: ويحك! بادري قبل أن يأتيك الأمر، ويحك! بادري قبل أن يأتيك الأمر. حتى كرر ذلك ستين مرة أسمعه ولا يراني.

وكان الحسن رحمه الله يقول في موعظته: المبادرة المبادرة! فإنما هي الأنفاس لو حُبِسَت انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله عز وجل، رحم الله امْرَأً نظر إلى نفسه وبكى على عدد ذنوبه، ثم قرأ هذه الآية: إنما نعد لهم عدا. يعني الأنفاس؛ آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخولك في قبرك.

واجتهد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قبل موته اجتهادا شديدا، فقيل له: لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرفق، فقال: إنّ الخَيْلَ إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك. قال: فلم يزل على ذلك حتى مات. وكان يقول لامرأته: شُدِّي رحلك فليس على جهنم معبرة.

وقال بعض الخلفاء على منبره: “عباد الله، اتقوا الله ما استطعتم وكونوا قوما صِيحَ بهم فانتبهوا، وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار، فاستبدلوا واستعدوا للموت فقد أظلكم، وترحلوا فقد جَدَّ بكم، وإن غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة لجديرة بقصر المدة، وإن غائبا يجِدُّ به الجديدان الليل والنهار لَحَرِيٌّ بسرعة الأوْبَة، وإن قادما يَحُلُّ بالفوز أو الشقوة لمستحق لأفضل العدة، فالتقى عند ربه من نصح نفسه، وقدم توبته، وغلب شهوته، فإن أجَلَهُ مستور عنه، وأملُه خادع له، والشيطانُ موكَّل به يُمَنِّيه التوبةَ ليسوقها، ويزينُ إليه المعصية ليرتكبها حتى تهجم مَنِيَّتُه عليه أغفل ما يكون عنها، وإنه ما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به، فيا لها حسرة على ذي غفلة، أن يكون عمره عليه حجة، وأن ترديه أيامه إلى شقوة! جعلنا الله وإياكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصر به عن طاعة الله معصية، ولا يحل به بعد الموت حسرة، إنه سميع الدعاء، وإنه بيده الخير دائما، فعال لما يشاء”.

وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: فتنتم أنفسكم، قال: بالشهوات واللذات، وتربصتم، قال: بالتوبة، وارتبتم، قال: شككتم، حتى جاء أمر الله، قال: الموت، وغركم بالله الغرور، قال: الشيطان.

وقال الحسن رحمه الله: “تَصَبَّرُوا وتَشَدَّدُوا فإنما هي أيام قلائل، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يُدْعَى الرجل منكم فيجيب ولا يلتفت، فانتقلوا بصالح ما بحضرتكم”.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “ما منكم من أحد أصبح إلا وهو ضيف وما له عَارِية، والضيف مرتحل والعارية مُؤَدَّاة”.

وقال أبو عبيدة الباجي رحمه الله: “دخلنا على الحسن في مرضه الذي مات فيه فقال: مرحبا بكم وأهلا! حياكم الله بالسلام وأحَلَّنا وإياكم دار المقام. هذه علانية حسنة إنْ صبرتم وصدقتم واتقيتم، فلا يكن حظكم من هذا الخبر -رحمكم الله- أن تسمعوه بهذه الأذن وتخرجوه من هذه الأذن، فإن من رأى محمدا صلى الله عليه وسلم فقد رآه غاديا ورائحا لم يضع لَبِنَةً على لبنة ولا قصبة على قصبة، ولكن رفع له علم فشمر إليه. الوَحَا الوَحَا! النَّجَا النَّجَا! رحم الله عبدا جعل العيش عيشا واحدا فأكل كِسْرَة، ولبس خَلَقاً 14 ولَزِقَ بالأرض، واجتهد في العبادة، وبكى على الخطيئة، وهرب من العقوبة، وابتغى الرحمة حتى يأتيه أجله وهو على ذلك”.

وقال عاصم الأحول رحمه الله: قال لي فضيل الرقاشي رحمه الله: “يا هذا! لا يشغلنك كثرة الناس عن نفسك، فإن الأمر يخلص إليك دونهم، ولا تقل أذهب ههنا وههنا فينقطع عنك النهار في لا شيء، فإن الأمر محفوظ عليك ولم تر شيئا قط أحسن طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم”.


[1] أخرجه الترمذي رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: حسن.\
[2] أخرجه ابن أبي الدنيا رحمه الله بإسناد حسن.\
[3] أخرجه البخاري رحمه الله من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.\
[4] أخرجه الترمذي رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما.\
[5] أخرجه الترمذي رحمه الله عن أبي بن كعب رضي الله عنه.\
[6] غرة: غفلة.\
[7] أخرجه ابن أبي الدنيا رحمه الله عن زيد السليمي رضي الله عنه مرسلا.\
[8] أخرجه ابن أبي الدنيا رحمه الله.\
[9] السعف: مفردها: السَّعَفَة: غصن النخل.\
[10] أخرجه ابن أبي الدنيا والترمذي رحمهما الله بإسناد حسن.\
[11] أخرجه ابن أبي الدنيا رحمه الله عن أنس رضي الله عنه.\
[12] أخرجه مسلم وابن أبي الدنيا رحمهما الله.\
[13] رواه الحاكم رحمه الله في المستدرك.\
[14] الخَلَق: الثوب البالي.\