لم أكن أدرك أنني يوما ما سوف أحظى بهذا الكم الهائل من المشاعر الفياضة والعواطف الجياشة وأنا أقرأ إنتاج تلامذتي في مكون التعبير والإنشاء، وبالضبط مهارة “كتابة سيرة ذاتية أو غيرية”.
لقد كانوا مطالبين بكتابة سيرة ذاتية تتطرق للحديث عن الذكريات في البيت الذي وُلدوا فيه، مصورين علاقاتهم بأفراد أسرهم، ناقلين صورة عن الحياة الاجتماعية في وسطهم.
وكأي موضوع سردي، تحتاج السيرة الذاتية إلى عنصرين أساسيين “السرد والوصف”؛ نقل التلاميذ والتلميذات صورا شتى لبيوتات مغربية متنوعة، منها الفخم والبسيط، ومنها الشقة الصغيرة والبيت الكبير ذو الطوابق العديدة، والأهم من هذا وذاك تلك المشاهد المفعمة بالدفء والحنان والمودة الطاغية، التي تربط بين أفراد الأسرة، خاصة بين الوالدين والإخوة.
تعتري القلم كما اللسان دهشة وتلعثم حينما نعبر عن مشاعر دافئة تجاه من نحب، ومن نقاسمهم الأماكن والماضي والحاضر أيضا، من شاركناهم الماء والطعام والكثير من التفاصيل والذكريات، من تختزن ذاكرتنا رائحتهم الممزوجة بعرق ونصب الأيام، من جرينا معهم ولعبنا في الدروب المجاورة، ومن صنعنا بوجودهم أحلى الأوقات وأمرحها..
ارتبط “البيت” دائما برائحة مميزة؛ فكل بيت له عبقه الخاص المنبثق غالبا من الطابع المميز لكل ربة أسرة؛ توابلها، مخبوزاتها، الرذاذ المنبعث من قدرها الساخن، قهوتها وشايها المعد بكل حب لأفراد أسرتها وضيوفها ولكل وافد على بيتها..
وبالرغم من أن صور كتب المطالعة والقراءة في المقررات المدرسية القديمة المرافقة لبعض المواضيع الاجتماعية، حيث مشهد اجتماع الأسرة في نهاية اليوم في غرفة المعيشة، و الأم تطرز ثوبها والأب يطالع الجريدة و الأطفال يشاهدون التلفاز، قد أصبحت نادرة في عصرنا الحالي، وباتت لمَّة العائلة حول مائدة الطعام في اندثار مهول، بسبب العولمة وما أحدثته الحياة الحديثة من شتات وشرخ في بنية الأسرة، بالرغم من كل ذلك سيظل البيت مرتكزا من مرتكزات الحياة العائلية، ومظلة واقية تحمي ذاكرتنا وذكرياتنا من التلف والنسيان، خاصة تلك المرتبطة برمضان والأعياد والمناسبات..
ولعل مما أبدعه التلاميذ والتلميذات في كتاباتهم لَهُوَ إحساس وشعور عميق بالانتماء للبيت؛ بوصفه المهد الأول للمعرفة، ومكان تلقي المبادئ الأولية والقيم، والنشأة على الحس الذوقي والجمالي، فتتشكل لديهم المقدرة على مواجهة الحياة خارجه، مما يشكل لدى الطفل مناعة وسياجا يحميه من كل الآفات خاصة النفسية والاجتماعية، فيتشكل لديه وعي داخلي دائم على الرغم من انتقاله إلى أماكن عديدة، والتقائه بأناس مختلفين.
لقد حاولت معاول الهدم أن تنال من الأسرة، وتطول “البيت” ومحوريته المقدسة، لأنه العمود الفقري الذي تقوم على أسسه الروابط الأسرية، كما أسهمت التكنولوجيا الحديثة في خلق جدار عازل بين أفراد العائلة، لينغمس كل واحد في عالمه الخاص خلف شاشات الهواتف، وتخبو كل معاني المشاركة والخدمة والمواساة والتواصل، مما يساهم بشكل مباشر في تقويض العلاقات الأسرية، ويُضَخِّمُ الهوة بين الأجيال، ولَعَمري إنها لفرصة لِنحيي هذه المشاعر الراكدة، والقيم المُغيبة، خاصة بين الأجداد والأحفاد، بين الآباء والأبناء.
ولا يتأتى ذلك إلا بمعرفة الأخطار الناجمة عن تراجع أدوار الأسرة، وانسحاب الوالدين من مهامهما، والإلقاء باللائمة فيما بينهم، دون مشاركة حقيقية وفعالة في حفظ النشء والفطرة السليمة، والحفاظ ما أمكن على لُحمة الأسرة ولمَّة العائلة، ولو ببرنامج متباعد حسب ما يقتضيه الحال والزمان.