1- بداية:
منذ دخول الاستعمار الفرنسي المغرب وسيطرته العسكرية عام 1912، سعى لاستنبات أنماط حياة جديدة، ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، كان حظ الشغل منها وافرا بالتأسيس لعلاقات إنتاجية وآليات عمل جديدة.
وهكذا تكونت شريحة عمالية مغربية وجاء أول تشريع يتعلق بشأن النقابات سنة 1936 كان يمنع المغاربة من الانتماء النقابي ويقصره فقط على الأوروبيين، قبل تأسيس أول إطار نقابي مغربي بتاريخ 20 مارس 1955، الاتحاد المغربي للشغل مدافعا عن استقلال المغرب وحقوق العمال المغاربة في آن واحد.
سنوات بعد ذلك، تتالت الاتهامات للاتحاد المغربي للشغل كنقابة ”مسيسة” تارة و”خبزية” تارة أخرى، مما أحدث شروخا كثيرة داخلها وساهم في تأسيس الاتحاد العام للشغالين أولا والكونفدرالية الديمقراطية تاليا وعشرات النقابات والمركزيات التي تناسلت كالفطر بأهداف متعددة أبرزها التشتيت والإضعاف والتحكم في القرار النقابي وتحقيق نزوعات فردية للزعامة.
اليوم وبعد مرور أزيد من 60 سنة على نشأة العمل النقابي المغربي، وتغير جوهري في العلاقات الدولية بزوال الاتحاد السوفياتي وبروز أقطاب عالمية في وجه الأحادية القطبية الأمريكية، ومع التغيرات التي مست علاقات الشغل بفعل تغول ” النيوليبرالية” المتوحشة وخضوع الحكومات التابعة لتوصيات المؤسسات المالية العالمية، يبرز السؤال حول الجدوى من النضال من داخل المقاربة الإصلاحية ”الخبزية” من دون استحضار الأفق الاستراتيجي للتغيير بالقطع مع مسببات نشوء مجتمع الاستغلال ونظام التسلط والاستبداد؟
2) المقاربة ”الخبزية” الإصلاحية للعمل النقابي:
تسعى هذه المقاربة لتحقيق أهداف مادية، وذلك بتحسين أوضاع العمال في الأمور التالية:
زيادة الأجور والمنح والتعويضات، وتقليص ساعات العمل، واستقرار العمل، وتوفير شروط الصحة والسلامة، والتأمين عن المرض والبطالة وضمان معاش يحفظ كرامة المتقاعد، وضمان الحريات والحقوق النقابية، وحق الإضراب، والمفاوضات الجماعية…إلخ
ولئن كانت هذه الأهداف نبيلة وضرورية لتحصين العمال نسبيا من الاستغلال المباشر ورفع الحيف عنهم فإنها تبقى قاصرة عن تحقيق مبدإ العدل والإنصاف الذي يعتبر أساسا متينا لتقدم المجتمعات وتقوية نسيجها.
تناضل النقابة الخبزية الإصلاحية وتفاوض الحكومات استنادا إلى رؤية إصلاحية قاصرة عن طرح أفق تغييري، تذهب للتفاوض ب ”قفة مطالب” وترجع ب ”فتات إنجازات” وتدافع عن حصيلتها أمام ”قواعدها”، بحجة التدرج في تحقيق المكاسب، ومراعات الظرفية المالية الصعبة للحكومة وهلم تبريرا.
تكون بذلك تقايض عرق العمال بفتات ما جاد به المشغل دولة كان أورأسمال عابر للحدود أومحلي، ثمن هذه المقايضة عبارة عن امتيازات لمسؤولين نقابيين انتهازيين أوحتى لإطارات نقابية عششت بها قيم الانتهازية والفساد، وهوما أصبح معلوما من الممارسة النقابية بالضرورة عند العام والخاص، وشواهده أكثر من أن تحصى، باستثناء بعض الشرفاء، وقليل ما هم.
وفي حالتنا المغربية حيث تحالف الثروة والسلطة والاستبداد والاستعمار من جهة وفساد أغلب النخب السياسية والاقتصادية والنقابية واتساع الهوة بين من يملك ومن لا يملك، لا يعدوالاشتغال من داخل الإطارات النقابية ”الخبزية” الإصلاحية كونه تجميلا لوجه الفساد والاستبداد وتبييض لاستغلال ”الباطرونا” للقوى العاملة.
3) المقاربة التغييرية للعمل النقابي:
من مميزات هذه المقاربة التغييرية للعمل النقابي أنها، بالإضافة لسعيها لتحقيق المطالب المادية الصرفة الآنفة الذكر وارتكازها على مبادئ الديمقراطية والتقدمية والوحدوية والتضامن المتعارف عليها نقابيا، تسعى للإسهام في تحقيق أفق استراتيجي تغييري باعتباره الخلاص لكل الفئات الشعبية، وأهم ملامحها في تقديري:
أ- إنسانية: تعتبر الإنسان العامل منطلق هذه المقاربة وهدفها بصفته الفاعل التاريخي، وتؤكد على الجانب القيمي والأخلاقي في التربية والممارسة النقابية ولا تقف عند الاعتبارات المادية فقط في التعامل معه، بل تأخذ في الحسبان جوانبه المعنوية وأشواقه في العدل والإنصاف والتحرر من الاستغلال المتوحش.
إذا كانت إنسانية ونبل العمل النقابي في بداياته التأسيسية الأولى بأوروبا تجلت في تحقيق هدف أساسي: مشاركة القوى العاملة في تحديد الأجر وساعات العمل اللذان كانا من اختصاص رب العمل وحده، يشتط فيهما كما شاء، فإن الواقع الحالي يفرض ”أنسنة” من نوع خاص مع انتظام ” الباطرونا” في إطارات، وطنية وعالمية، تهدف أساسا لحماية مصالحها وتحقيق أعلى المكاسب بأقل تكاليف ولوعلى حساب حقوق وكرامة الشغيلة الكادحة.
ب- مستقبلية: لا ترتهن لإكراهات الواقع لتبرير عجزها، ولا تعتبر ردة فعل عابرة على حالة مأزومة ولا نشوة نضالية آنية، بل قراءة واعية لتاريخ ”النقابية المغربية” وأهم محطاتها التاريخية ومكاسبها ومنجزاتها وإخفاقاتها وعثراتها، مع استحضار المتغيرات الوطنية والدولية ومراكز التأثير الخارجية ( قوى الاستكبار والاستعمار العالمي، منظمة التجارة العالمية، المؤسسات المالية الدولية…) لرسم أفق نقابي وحدوي تغييري مستقبلي.
ج- جماهيرية: تسعى لإشراك أوسع الشرائح العمالية والمهنية بل تشمل الفلاحين والحرفيين والتجار والطلبة وحتى العاطلين والمعطلين تأطيرا وتكوينا وتوجيها وإسهاما في صناعة القرار النقابي وتنزيله وخوض المعارك النضالية لتحقيقه، بعيدا عن النخبوية المتكلسة لفئة عريضة من المسؤولين النقابيين المرتهنين للدولة كمشغل أوللخواص أولأحزابهم.
ح- ميثاقية: تتوافق على ميثاق يحدد المرتكزات الأساسية للعمل النقابي على أعين القوى العاملة وبتوافقات تاريخية بعد حوار عميق يشمل: التصورات والأهداف والغايات والاستراتيجيات التغييرية والتكتيكات المرحلية.
ميثاق يكنس قيم الانتهازية والوصولية ويحارب الريع في صفوف القيادات ويعيد الثقة ويعقد مصالحة تاريخية مع عموم الشغيلة ويحفز على الإبداع والإنتاج ويفرض التوزيع العادل للأرباح والثروات ويقف صخرة صلبة في وجه المتاجرين بعرق ومعاناة ”القوى العاملة”.
4) ختاما:
سؤال: أية نقابة؟ سيبقى مطروحا على الفاعلين النقابيين، وجوابه الموضوعي يشكل أملا للكادحين والفئات المسحوقة في طاحون ”النيوليبرالية المتوحشة”، كما أن هذا الجواب لا ينفصل عن الأفق السياسي مهما حاولنا تجاوز أوتجاهل ذلك.
ما يحتم على الفاعلين السياسيين والنقابيين والاجتماعيين والنخب الفكرية بكل مرجعياتهم وقناعاتهم التداعي لحوار تاريخي للإجابة عن سؤال: أي مجتمع وأي نظام سياسي وأية علاقات شغل لمغرب القرن الواحد والعشرين؟