توطئة:
قبل عشرين عاما كنت قد رأيتُ رؤيا. خيرا وسلاما؛ رأيتني في حفل تكريم بهيج حاشد أنا المعني به، وقد أهدى إليّ الحضور هدايا ووضعوا فوق رأسي طربوشا مغربيا أحمر طويلا وجميلا، فلما رفعته عن رأسي وأنا فرح مسرور بما أكرمني إخوتي به ألفيته يحمل رقم أربعين؛ دلالة على مَقاسه.
قصَصْتُ الرّؤيا على أحد الأحبة الألِبّاء فقال هي رؤيا تشريف وتكليف؛ تشريف بما هي احتفال وتكريم، وتكليف يحملُك على الجِدّ والاجتهاد لتكون أهلا لرُشْد الأربعين. قلت: لم أبلغها بعدُ، وإنّما عمري الآن ثمان وثلاثون سنة ونيف، فأجاب مُبتسِما: وهل غيبُ الحقّ يؤرَّخ بميلاد النصارى أم بهجرة المسلمين.
الآن وبعد عشرين عاما من تلك الرؤيا المباركة ها أنذا أحتفل في موعد المولد ببلوغ الستين، وقد عنّ لي أن أُدشِّن هذا العهد الجديد بهذا القصيد.
سين
إلى الستين بثّي واعتذاري ** فإنّي ما أتيْتُكِ باختياري
أتيْتُكِ واهيا كَلاّ مريضا ** كئيب القلب أشكوكِ انكساري
أتيْتُك مُرغَما وَجِلا مَهينا ** ضعيف الجسم مُنحنيَ الفقار
أتيتُكِ والنُّهى شاخَت وباتَت ** تَرَدّدُ في اقتحام واختيار
وتنسى كلّ حينٍ ويح عقلي ** تذكّرُني الحفيدة باسم جاري
وأسهو عن دوائي قبل نوم ** وأشرد في الخطاب وفي الحوار
ونفسي تشتهي ما لا سبيلٌ ** إلى تحقيقه دون ابتدار
أتيتكِ صار رأسي مثل ثلج ** ألا فاعجب لثلج مِثْل نار
أتيتك دون أسنان وضرس ** سوى من طاقم واه وضار
أتيتُكِ ملء قلبي همّ دنيا ** فمَن بعدي يصون أثاث داري
ويحمي ثروتي من نهب عاد ** ويحفظ أسرتي من ذلّ عار؟
أتيتكِ ضاق صدري من قعودي ** كأني فارس فوق الحمار
ظننت تقاعدي راحا وروحا ** وبُعدا عن تفاهات الذّراري
إذا بي بعده فيئا لوقت ** يضيع سُدى كفِلْسٍ في قرار
وتزعج أذنيَ الأصواتُ همسا ** وعيني أُدْخِلَت في عمق غار
ويقلق راحتي التلفاز طنّا ** وأكره مَن يجادل أو يماري
ويربك صحّتي لَحْم وحلوى ** مَلَلْتُ من السبانخ والخضار
ويرغب عن مجالستي أُناس ** بدا وعظي لهم محض اجترار
أتيتك مُنيتي أمن وقوت ** وعافية؛ هناء باختصار
فهل أكثرتُ يا ستين عذراً ** وهل يُعطى الأماني ذو اعتذار؟
وإن لم أُكْثِر الشكوى فحسبي ** قليل من كثير لا تَحَاري
ولو أبدَيْتُ كل الهَمّ طُرّا ** لقلْتِ الموت أولى مِن سُعار
الستون
أخ الستين يا فخر البرايا ** أتيتكَ لا لعُتْب أو شِجار
ولا سلوى عزاء بعد بَلْوى ** وأنت أخي جدير بافتخاري
أتيتكَ كي أقول كفى امتعاضا ** فستين الأُسى سِنُّ اعتبار
أخ الستين أنت دليل خير ** وهل تُرجى الدّلالة مِن صِغار؟
وأنت لمن أَرادوا القول فصلا ** جدير بالمشورة والقرار
وأنت لمن وَنَوا كسَلا ووهنا ** نذير بالصَّغار وبالشَّنار
وقد عُلِّمْتَ من درس الليالي ** بأنّ الجِدّ محمود الثّمار
وأنّ الحقّ يُكسَب انتزاعا ** وهل تُعطى الحقوق لذي انتظار؟!
أتيتكَ مُنيتي تذكير شيب ** بما فعل الشباب ومن يُباري
ذكرْتَ الله في نفس وناس ** وغيرك في لظى فتن ضَوار
وقمت الليل والهلكى سُكارى ** بخدر النوم أو بنت البوار
وصمت اليوم في حرّ شديد ** ومثلك طاعم طول النهار
صحبت القوم بالإخلاص دهرا ** فنلت الفضل في كنف الكبار
محبّةَ مؤمن سهل ودود ** وعزّة قائم رغم الحصار
وذكر مفرِّد تال مُنيب ** وصدق مؤيّد لا مستعار
وبذل الوسع برهان التجافي ** عن الدنيا ابتغاء رضاء باري
وعلماً نافعا للفعل يُفضي ** وسمتا زانَه سِرّ الوقار
وحِلْما من صبور واتئادا ** من المتوازن السمح المُداري
وقصدا واقتصادا واعتدالا ** من التبذير والتقتير عار
جهادا في سبيل الله حقّا ** وشوقا للجنان وللجوار
ورؤية وجه ربّك جلّ ربّي ** عن الصّوَر السجينة في إطار
مع الهادي وأصحاب وآل ** ومَن سبقوا خيارا من خيار
أتيتك في ربيعٍ شهْر عيد ** بشيرُ السّعد من حسن اختياري
وفأل الخير يُذكي فيك عزما ** لستّين الشّهادة لا التّواري
ألم يك مولد الهادي مُجيرا ** لكعبتنا مِن الهَمَج الشّرار؟!
ومِن صنم ومِن زلم ورجس ** ووأد وانتقام أخْذَ ثار
وبطش وافتخار بالدّواهي ** وتشريد ونفي في الصّحاري
وجهل لا يُبالي أو يراعي ** حِمىً أو حُرْمَةً أو حقّ جار
وللأسياد ِكلٌّ صار عبداً ** ونِسْوتهم قِيان أو جَوار؟!
ألم يك مورِد الداعي نميرا ** سَقى العطشان من صاف وجار؟!
ألم يك مولد الرّاعي جديرا ** بمن ساس الجزيرة باقتدار؟!
وحوّلها منارا للمعالي ** وهدّأ حولها موج البحار
وأحياها بهدي بعد بَغْي ** وأهّلها لعز وازدهار
ألم يك مولد المختار رِفْقا ** بمن هو في احتياج واضطرار؟!
ألم يك مولد المبعوث سبقا ** لصِدّيقٍ خَليل مُستشار؟!
وفاروقٍ عزيز ليس يخشى ** صناديد انتقام واظِّهار
وعثمان الحياء وذي فقار ** وباقي العشرة الغُرّ الكبار
ومَن هجروا ومَن نصروا وآووا ** وراموا الفتح من بعد انتصار
وبنت خويلد أنْعِم وأكْرِم ** وزهراءِ البتول بلا مُجار
وعائشة وزيجات المُفَدّى ** وكلّ جديرة بتُقى الخِمار
كذلك موعد الستين عهد ** جديد بل جدير باعتبار
فجهِّز روح عزم واغتنام ** لحجّ تمتّع بعد اعتمار
ويَمِّم وجه شوق بل هُيام ** لطه في المدينة والمزار
وجدِّد عهد إحسان وعدل ** مع الهادي لتصحيح المسار
وخُذ مِن مولد المختار إذنا ** بإعمار الحَشا بعد الدّمار
فإن صلّيْتَ وَفِّ الكيل حُبّا ** وبرهِن بانتهاء وائتمار
وقل يا سيدي عفوا وصَفْحا ** إذا اجتهد المجاهد في ادّخار
فذخري أنت يا مفتاح خيري ** ويا معراج شِعْري وابتكاري
ومبتدأ اهتدائي واقتدائي ** وغاية هَبّتي بعد انفطاري
ويا سرّ اتّباعي وانجماعي ** وغُنْيَة همّتي بعد افتقاري
ويا إسراء روحي للمعالي ** وآسية احتمالي واصطباري
ذكرتُك لا رجاء في انفراج ** ولا أبدا وِجاء لظى انفجار
ذكرتُك للتأسّي والتملّي ** وإحمائي بقُربِك وانصهاري
ذكرتك للتفاني والتبني ** وهل تفنى الحديدة في النُّضار؟
ذكرتُك لا أغالي أو أبالي ** بمن يَرمي غرامي بالجِمار
فذكرُك سيدي أحلى شعورٍ ** وحبّك لم يزل أغلى شعار
ذ. منير ركراكي فاس 11 ربيع الأول 1439ه الموافق لـ 30 نونبر 2017م.