ثمة لحظات يضيق فيها الحاضر بأوجاعه، وتتعاظم فيها المآسي على نحو يفضي إلى انسداد الأفق، وتراجع الفعل الإنساني أمام وطأة الواقع. لحظات لا نجد حينها ملاذا أصفى من التاريخ، نغوص في صفحاته رجاء تلمس قبس يبدد عتمة الواقع، وحكمة نستلهم منها سبيلا للنهوض.
من بين تلك الصفحات المضيئة، تترامى إلى الأذهان مشاهد ترويها ميادين البطولة، وتسطرها دماء الشهداء، صفحات تشهد على أمة لم تكن انتصاراتها يوما رهينة العدد والعتاد، بل كانت ثمرة إيمان عميق، وإرادة لا تلين، ووحدة صف التقت فيها الرؤية بالمشروع، وتكاملت الغاية مع الوسيلة.
تبرز بين المشاهد معركة اليرموك باعتبارها منعطفا استراتيجيا فارقا، كشف عن رسوخ التصور الإسلامي للفتح، بوصفه مشروعا دينيا وحضاريا يتجاوز الغلبة العسكرية، ونضج تنظيمه القيادي والعسكري تحت إمرة أبي عبيدة بن الجراح، وبتنسيقه المحكم مع نخبة من القادة، أظهر الجيش الإسلامي فيه قدرة استثنائية على الصمود والمناورة في مواجهة قوة تفوقه عددا وعتادا. وقد أسهم وضوح الغاية، والانضباط التنظيمي، والوعي الجماعي؛ بأبعاد المهمة، في ترجيح كفة المسلمين وتحقيق نصر حاسم، سجلت فيه النساء حضورا لافتا، ليس على المستوى التعبوي فحسب، بل في بعض المواضع الحاسمة من المواجهة، شاركن في القتال وأسهمن في صد الهجوم، مما جعل من مشاركتهن امتدادا لفكرة الجهاد الجماعي، الذي اتسعت له بنية المجتمع الإسلامي آنذاك، حين اقتضى السياق ذلك.
لم يكن فتح الشام مجرد توسع ميداني، بل تحولا نوعيا جعل من هذا الإقليم مجالا حضاريا جديدا لرسالة الإسلام، بما حملته من قيم العدل والتكريم الإنساني، بديلا عن أنماط السيطرة القائمة على التسلط والغلبة. فمثلت اليرموك لحظة تحول جمعت بين البعد العسكري والمضمون القيمي.
وأعيد تشكيل المشهد العسكري والحضاري على نحو فارق في معركة القادسية، التي كانت مثالا حيا على التحام الإيمان بالفعل التاريخي، فقد كانت القيادة الحكيمة لسعد بن أبي وقاص، مقرونة بإيمان الجنود بعدالة قضيتهم، كفيلة بقلب موازين القوى، فكشفت أن النصر يبنى بالأساس على وحدة الصف، وتماسك القيادة مع الجنود. فقد استطاع المسلمون رغم محدودية إمكاناتهم المادية، أن يواجهوا قوة الإمبراطورية الفارسية، وأن يحققوا تفوقا ميدانيا كانت له تبعات استراتيجية بعيدة المدى، ولحظة فارقة تؤكد أن فعل التفوق التاريخي لا يتحقق بالقوة وحدها، بل حين تتوحد الجماعة حول تصور مشترك للغرض التاريخي، وتؤمن بعدالة ما تناضل من أجله.
أما في معركة عين جالوت وقد بلغ الخطر ذروته، وبلغت الأمة حافة الانهيار تحت ضغط الزحف المغولي -ذلك الطوفان الذي اجتاح الحواضر وأسقط المراكز العلمية والسياسية الكبرى- برزت لحظة استثنائية في تاريخ المواجهة، فقد أفضى سياق الانهيار العام إلى يقظة مفصلية، تمثلت في صعود سيف الدين قطز، ومن خلفه ركن الدين بيبرس، ليقودا مواجهة عسكرية جسدت فعلا جهاديا شرعيا، استعاد فيه البعد الديني مكانته المركزية في صياغة القرارين السياسي والعسكري، عبر استدعاء فريضة الدفاع وتعبئة الأمة تحت راية الإسلام. وقد مثل هذا الانتصار نقطة انعطاف حاسمة، أوقف الزحف المغولي وأنقذ الشام ومصر من الدمار، وأعاد للأمة وعيها بذاتها، وثقتها بقدرتها على الصمود والفاعلية.
تلك المعارك وغيرها لم تكن مجرد انتصارات ميدانية، بل شواهد على جوهر أمة، تتجلى من خلالها معالم التصور الإسلامي للفتح؛ حيث تتضافر القيادة بالوعي الجماعي، ويتكامل البعد العسكري مع الرؤية القيمية، في مشهد يؤكد أن لحظات النهوض الكبرى كانت دوما ثمرة تلاحم مجتمعي، وإيمان عميق بمشروعية ما يدافع عنه.
ولا غرو كان قادة تلك المحطات نجوما مضيئة في سماء التاريخ، رجالا عظاما تفيض سيرهم بالحكمة والرؤية الاستراتيجية. فهذا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كان رجل دولة عاش هم الأمة وسهر على حاجات الرعية، فكان يتفقدهم ليلا، ويقضي حوائجهم نهارا، يحمل وجعهم كأنها وجعه، وينظر إليهم من موقع الالتزام العميق بالمسؤولية تجاه الأمة، وقد تبلورت في ولايته الدولة الإسلامية على أسس تنظيمية متينة، امتد أثرها السياسي والاقتصادي والاجتماعي عبر الأجيال.
وعلى ذات النهج، برز صلاح الدين الأيوبي الذي كان نموذجا بارزا في القيادة والاستجابة لنداء الأمة، فقد حرر القدس بعد معركة حطين، وبنى مشروعا حضاريا شاملا، ارتكز على وحدة الصف، وإعادة بناء المؤسسات، وتهيئة الأمة لاستعادة دورها الريادي في السياق الإقليمي والدولي، مستندا إلى رؤية متكاملة تجمع بين القوة والشرعية، والبعد الروحي والمادي. فمنذ بدايات التاريخ الإسلامي، كانت الكرامة مبدأ سياسيا وقيميا، تترتب عليه أفعال ملموسة، وإرادات جماعية، وقرارات حاسمة، وقد تجلى هذا المعنى في لحظات حاسمة من تاريخ الأمة، كما في القادسية واليرموك وعين جالوت وحطين، حين نهضت القيادة متماهية مع الوجدان الجمعي، وتحركت الأمة بكامل ثقلها دفاعا عن كيانها الحضاري والروحي، مدفوعة بإيمان عميق بمشروعية ما تدافع عنه.
في هذا السياق التاريخي، تفرض غزة اليوم نفسها باعتبارها اختزالا مكثفا لمعادلة سقط فيها الفعل الجمعي، وانحسرت معها منظومة الاستجابة التاريخية، التي لطالما ميزت الأمة الإسلامية في أزمنة المحن.
إن استرجاع هذا المشهد في ظل الواقع الراهن يورث المتلقي شعورا مركبا؛ شعورا بالأسى إزاء مأساة تتكرر تحت أنظار الجميع، وألما آخر أعمق يتمثل في التناقض الصارخ بين ماض زاخر بالحضور والموقف، وحاضر يلفه التراجع والصمت، فتحول الغياب إلى سمة للقرار العربي الرسمي، وغابت لغة النصرة لتحل محلها اعتبارات سياسية وأمنية، تقنن الدعم وتخضعه لحسابات لا تمت إلى أخلاقيات التاريخ الإسلامي بصلة.
إن المقاومة في غزة ليست لحظة عبثية أو انفعالية، بل امتداد حي لذاكرة الفتح والثبات، يتمثل فيها المعنى الرمزي للجهاد المشروع والكرامة المستعصية على الكسر، والمقارنة بما كان عليه حال الأمة في لحظات التحول الكبرى؛ تكشف عمق التراجع حين كانت الأمة تستنفر بكاملها، جيشا وعلماء وعامة، دفاعا عن الدين والعرض والهوية.
إن مقاومي غزة اليوم، لا يقلون مقاما عن أولئك الذين خاضوا القادسية أو حطين أو عين جالوت، بل لعلهم في كثير من الجوانب، أشد بلاء وأقرب إلى جوهر الجهاد النقي، غير أن ما يفاقم مأساتهم هو العزلة والانكشاف الكامل، في فضاء سياسي وأخلاقي، يتراجع عن أبسط قواعد النصرة.
وإن كان السؤال عن عمر أو صلاح الدين، يلوح في الأذهان كلما اشتد الخطب واحتدم القهر، فإن واقع غزة اليوم لا يطرح معضلة القيادة بقدر ما يفضح غياب الأمة الحاضنة؛ الأمة التي كانت في لحظات التحول الكبرى، تنهض بكاملها؛ لا تنتظر الإشارة بل تصنعها.
لم تعد غزة تفتقر إلى القادة، بل إلى تلك الجماعة الواعية التي توفر الدعم وتؤمن بالقضية، وتلتزم بالمسؤولية التاريخية، وإذا كان التاريخ سيسجل هذه المرحلة، فإنه لن يقتصر على توثيق صمود غزة وصبرها، بل سيسجل أيضا خذلان من تخاذل، وغفلة من كان بيده الأمر ولم يحرك ساكنا.
ولن تقرأ صفحات هذه اللحظة على أنها مأساة إنسانية فحسب، بل كاختبار صارم للشعوب وقياس قدرة الأمة في الحفاظ على كرامتها وامتدادها الحضاري، أو استسلامها وانحسارها، فالتاريخ وإن كان ملاذا للذاكرة، فهو حتما ليس مجرد سجل ساكن يستعاد بالترديد، بل قوة فاعلة وتيار متجدد لا يرحم المتقاعسين، يصطف إلى جانب من ينهض بمسؤولية الحاضر ويؤسس لمسار المستقبل. والسؤال المحوري الذي تفرضه هذه اللحظة هو: ما موقعنا من كل هذا؟ هل نريد أن نكون امتدادا لأولئك القادة العظام الذين حملوا مشروع الأمة، أم سنظل واقفين على هامش الأحداث، أسرى للتردد، والغرق في النحيب؟
إن أمة أنجبت عمر وصلاح الدين وبيبرس، لم تُعقم بعد، لكنها بحاجة إلى يقظة حقيقية، تبدأ بالوعي وتمضي نحو الفعل، موجهة بوصلتها نحو القيم التي كانت أساس حضارتها ومصدر عزها، وبين أمجاد الأمس وخيبات الحاضر، يبقى الأمل معقودا على إرادة صادقة، توقظ النائم، وتستنهض القادر، وتعيد للأمة موقعها في سجل الزمن والتاريخ.