نعيش في هذه الأيام ذكرى الوفاء الحادية عشرة لرحيل الإمام المرشد الأستاذ ‘عبد السلام ياسين’ رحمه الله، وفي هذه الأيام أيضا نعيش حرب إبادة جماعية في غزة العزة بعد ملحمة السابع من أكتوبر 2023م التي قام بها وبكل قوة وشجاعة جنود المقاومة المسلحة، وعلى رأسهم أبناء ‘القسام’ المنتمون لحركة المقاومة الإسلامية ‘حماس’ التي أسسها الشيخ ‘أحمد ياسين’ رحمه الله، رافعين لواء الجهاد في وجه الصهاينة الغاصبين والمحتلين، وفاتحين للأمل واليقين لتحقيق وعد الآخرة الموعود من رب العالمين. فماذا يجمع بين رجلين عظيمين من عظماء الأمة ياسين المسجد الأقصى وياسين المغرب الأقصى رحمهما الله تعالى؟
بداية لا بد من الإشارة إلى أن الإجابة عن السؤال السابق يلزمه بحث مستقل وشامل، وليس هذا هو غرضي من الكتابة في هذا الموضوع وفي ذكرى الوفاء الحادية عشرة، بل غرضي من ذلك هو التركيز فقط على ما يجمع الإمام ‘عبد السلام ياسين’ والشيخ ‘أحمد ياسين’ رحمهما الله فيما يهم أرض فلسطين، باعتبارها البوصلة التي يتحدد على أساسها مسار ومصير أمتنا الإسلامية، بل قد لا نبالغ إن قلنا مسار ومصير العالم والإنسانية بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023م.
ياسين المسجد الأقصى: اعتبر الشيخ ‘أحمد ياسين’ أنّ القضية الفلسطينية هي «قضية وطن وقضية مبدأ وعقيدة». واعتبر أيضا «أنَّ أرض فلسطين، أرض عربية إسلامية، اغتصبت بقوة السلاح من قِبَل الصهاينة ولن تعود إلاّ بقوة السلاح». ومن هذا المنطلق استطاع رحمه الله أن يبني حركة مقاومة إسلامية يضرب بها المثل في الجهاد والدفاع عن أرض فلسطين ومقدساتها الشرعية في المسجد الأقصى والقدس الشريف. فمن خلال الصمود الأسطوري لحركة المقاومة وحاضنتها الشعبية في غزة الأبية تبين للعالمين معدن هؤلاء الرجال وقيمة ما تلقوه من شيخهم ‘أحمد ياسين’ من قوة إيمان ويقين وعدالة قضية في مواجهة هذه الإبادة الجماعية التي يفوق وصفها الخيال. ويمكن أن نتلمس أثر كل ذلك في أحداث السابع من أكتوبر 2023م وما بعدها من خلال ما يلي:
ـ إن ما وقع في السابع من أكتوبر 2023م على يد المقاومة وأبناء ‘أحمد ياسين’ كسر أسطورة الجيش الصهيوني الذي لا يقهر، وضرب الفكرة الصهيونية في مقتل، حيث بزغ الأمل من جديد بزوال إسرائيل وتحقيق وعد الآخرة بالنسبة للمسلمين، وتسرب الشك للصهاينة الغاصبين، وبدأ العد العكسي لهجرة معاكسة خارج إسرائيل.
ـ إن ما وقع في السابع من أكتوبر 2023م على يد المقاومة وأبناء ‘أحمد ياسين’ فضح أكاذيب الولايات المتحدة والنظام الغربي واللوبي الصهيوني المتحالف معهما من جهة، وأعاد للقضية الفلسطينية مكانتها في الاهتمام العالمي منقطع النظير من جهة ثانية.
ـ إن ما وقع في السابع من أكتوبر 2023م على يد المقاومة وأبناء ‘أحمد ياسين’ فضح الحكام العرب المطبعين ومؤامرات المتصهينين، وأخرج قطار التطبيع واتفاقيات ‘أبراهام’ عن السكة إلى حين.
ـ إن ما وقع في السابع من أكتوبر 2023م على يد المقاومة وأبناء ‘أحمد ياسين’ وما تلاه من مجازر بين أن الحاضنة الشعبية للمقاومة بألف خير وأن تربية الناس في غزة خلال السنوات الأخيرة على أخلاق الدين وقيم القرآن الكريم قد أعطت أكلها بكل يقين.
ـ إن ما وقع في السابع من أكتوبر 2023م على يد المقاومة وأبناء ‘أحمد ياسين’ أسقط القناع عن المجتمع الدولي وحقوق الإنسان والمواثيق الدولية الإنسانية وأعادنا إلى العصور الوسطى وحقيقة معاداة الإسلام والمسلمين (قتل ـ تشريدـ تهجير قسري ـ تجويع ـ تخريب مساجد ومستشفيات ومدار وبنية تحتيةـ قطع كهرباء وشبكات الاتصال …)
ـ إن ما وقع في السابع من أكتوبر 2023م على يد المقاومة وأبناء ‘أحمد ياسين’ بَيَّن أن المواجهة الحقيقية ليست مع الصهاينة الغاصبين وكيانهم المصطنع، بل تعدتها إلى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الذي يشرف على هذه الإبادة الجماعية لأهل غزة وفلسطين من خلال الجسر الجوي الذي يمد جيش الاحتلال بكل حاجياته العسكرية، ومن خلال الدعم الدبلوماسي والإعلامي وقرارات الفيتو في مجلس الأمن.
فرحم الله الإمام ‘أحمد ياسين’ وجزاه الله عنا وعن الأمة الإسلامية خير الجزاء، فقد بنى وأسس وغرس غرسا طيبا يقطف الشعب الفلسطيني بل الأمة الإسلامية والعالم كله ثمرة غرسه الطاهر الذي ﴿أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ سورة الفتح، الآية:29.
ياسين المغرب الأقصى: قضية فلسطين في نظر الإمام ‘عبد السلام ياسين’ رحمه الله ليست قضية بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الصهيوني كما يعتبرها بعضهم، بل هي “قضية مصيرية” 1 تتجاوز ما هو محلي لتختزل الأبعاد الحقيقية للصراع بين الأمة قاطبة وأعدائها المفترضين. وفي موضع آخر اعتبر القضية الفلسطينية “بداية المواجهة الحاسمة بين الحق والباطل، بين الجاهلية والإسلام” 2.
لا بد من الإشارة أيضا إلى أن الإمام ‘عبد السلام ياسين’ رحمه اعتبر أن ‘دولة’ الاحتلال اليهودية هناك في أمريكا، “ويغلط الناس حين يظنون الكيان الصهيوني في فلسطين أداة سياسية عسكرية في يد الدولة العظمى تؤمن بها مصالحها. الناظرون في العمق يدركون أن العكس هو الصحيح . الدولة العظمى دولة مسكونة، سكنتها الروح اليهودية من قديم، فهي تحركها وتقيمها وتقعدها على الوتيرة التي تشاء، وفي الاتجاه التي تشاء، وبالمقدار التي تشاء، وفي الزمن التي تشاء” 3. وهي حقيقة ماثلة أمامنا في الإبادة الجماعية والمجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال الصهيوني في غزة بعد أحداث السابع من أكتوبر، بتمويل ودعم عسكري وغطاء دبلوماسي أمريكي يثبت أن هوس الروح اليهودية سكنت الدولة العظمى وحلفاءها الغربيين، وهي في طريقها لتسكن بعض الحكام العرب والمسلمين.
إن القضية الفلسطينية بمركزيتها في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله انتقلت إلى تلامذته وتجلت بوضوح في “تربية جند الله على حب فلسطين والدفاع عنها تعبدا لله لا رياء ولا بطرا، واستنهاض الأمة لنصرتها وتحريرها بكل الوسائل الممكنة والمشروعة” 4. ويمكن تلمس ذلك كله من خلال ما يلي:
أ ـ على المستوى التنظيري: بداية فالإمام ‘عبد السلام ياسين’ رحمه الله وهو يبسط المنهاج النبوي لتحرير الأمة تربية وتنظيما وزحفا، خصص للقضية الفلسطينية “مساحة كبيرة فيما كتب ومكانة عليا فيما نظر، ومجالا فسيحا فيما عمل وشيد” 5. وفي كتابه ‘الإسلام والحداثة’ خصص فصلا كاملا للقضية الفلسطينية تحت عنوان ‘الجرح الفلسطيني’ خاطب فيه الغرب والنخب المغربة. كما خصص كتابا كاملا للحديث بتفصيل عن القضية الفلسطينية أسماه “سنة الله”، اعتبره الدكتور ‘مجدي قويدر ‘رحمه الله “أوعى من جمع، وأعمق من نظر إلى القضية الفلسطينية في إطار سنة الله، وفي ظل واقع الغثائية الذي تعيشه الأمة، وتكالب الأمم عليها، وعرض فيه أحداث الأمة المؤسفة، وهوانها على الناس، وأبان أن النصر لا يتحقق بالسنن الخارقة، ولا بالقعود عن الإعداد والجهاد، وإنما يتنزل بعد الثقة بالله على من أخذوا بالسنن الجارية، وأعدوا ما استطاعوا من الأسباب” 6.
ب ـ على مستوى التنفيذ والتنظيم:
تأسست هيأة النصرة لقضايا الأمة وفلسطين، لتقوم بمهمة »التضامن والنصرة تعليما وتأطيرا وتدافعا، لها برامجها ولجنها وإنجازاتها المشهودة« [7]. كما أن مكتب العلاقات الخارجية لجماعة العدل والإحسان لا تغيب قضية فلسطين عن برامجه وجدول أعماله.
وعلى المستوى الميداني برزت جماعة العدل والإحسان بشكل لافت للعيان في العالم كله من خلال:
ـ حضورها في المئات من الوقفات المسجدية والعشرات من المسيرات المليونية، تنديدا بالمجازر والإبادة الجماعية وتضامنا مع المحاصرين والمضطهدين من أبناء غزة الأبية وفلسطين.وهي الوقفات الاحتجاجية والمسيرات نفسها التي قال عنها الشيخ أحمد ياسين رحمه الله بأنها تعدل » عملية استشهادية في تل أبيب «.
ـ تنظيمها مهرجانات وندوات وملتقيات تنديدا بالعدوان الصهيوني على غزة وفضحا للمخططات الصهيونية وآلتها الإعلامية.
ـ مشاركتها في الائتلافات والمنظمات الوطنية والدولية الخادمة للقضية الفلسطينية.
ورحم الله المرشد والإمام عبد السلام ياسين وجزاه الله عنا خير الجزاء بما ربى وأرشد، وخلف وراءه تلامذة وأتباعا يصلون الليل بالنهار لنصرة قضية فلسطين، استجابة لوصيته واستشرافا لوعد الآخرة بكل يقين.
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في قطوف رقم4:
فلسطين فلسطين
بِجَنْب العُرب إسفين
ولو للعُرب تمييز
وفُلْك العرب مشحون
لألقوا من شعارات
لها بالدين تهوين
وقالوا: نحن إسلام
لنا بالدين تمكين
وقٌدْس الله نفديه
فقدس الله مسجون
جهاد الكفر مذهبنا
ومفروض ومسنون
صلاة الله نهديها
من الأملاك تأمين