تداعى له سائر الجسد.. التفاف واسع حول المناطق المنكوبة

Cover Image for تداعى له سائر الجسد.. التفاف واسع حول المناطق المنكوبة
نشر بتاريخ

أثبت الزلزال الأخير الذي وقع في منطقة الحوز وعدد من المدن المغربية، مساء الجمعة 8 شتنبر، صحة مقولة إن الأزمات تظهر معادن الناس، تألم الجميع لألم المصابين والتفوا حول قضيتهم؛ إحساسا ودعاء وعملا في الميدان، وتحققت فيهم تلك الجسدية التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”، وساروا في حاجة إخوتهم امتثالا لتوجيه نبيهم: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربةً فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة”.

ما أن استفاق المغاربة من هول الصدمة الأولى، وبدأت تجول صور ومقاطع فيديوهات تنبئ عن هول الكارثة في المناطق المنكوبة -دواوير المغرب المنسي ظلما وجورا- على منصات التواصل الاجتماعي، حتى عمت حالة من الحزن صاحبتها استجابة واسعة لكل نداءات القوى المجتمعية الحية، انبرى كل من موقعه للمساهمة بما يقدر عليه من أجل تخفيف المصاب، فرادى وجماعات، فرأينا التدفق الغزير لقوافل الخير وهي تحمل المواد الغذائية والألبسة والأغطية.. والطوابير الطويلة من أجل التبرع بالدم، بل وأشخاص (منهم من يبدو ضعفه المادي والبدني ظاهرا للعيان لكنه أبى إلا أن يساهم بما يقدر عليه)، وأسر حولت بيوتها إلى مصنع للخبز علها تسد جوعة جائع.. وغيرها من المبادرات الرائعة التي تثلج الصدر وتحيي الأمل في أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كل هذا رأيناه مزيّنا بأحاسيس متدفقة أعطت الحياة للفعل برمته وأبانت عن تجدر القيم الدينية والإنسانية عند المغاربة.

لتقريب الأجواء من المواطنين ودلالتهم على بعض الاحتياجات التي تعتبر أولوية، نسوق بعض التصريحات لفاعلين ونشطاء من قلب المناطق المنكوبة.

وانفجر التضامن المجتمعي.. مشاهد مشرقة

حوّل المغاربة الحادثة الأليمة إلى درس حيّ يراه العالم على الهواء مباشرة، ويرى فيه كل فرد فرد من أبناء الوطن ذاته وعمق إيمانه وحجم تضحياته ومدى تشبّعه بقيم الخير والتضامن والمواساة. وقد كان -بحمد الله- المشهد مبهجا جدا مبشّرا جدا راقيا بحق.

على غير تخطيط، ودون “نيّة مبيّتة” أو “سبق إصرار وترصّد”! التأمت طوعيا عشرات التجمعات في مختلف المدن والأحياء من أقصى المغرب إلى أقصاه، تضمّ عشرات ومئات الشباب والنساء والرجال، قادتهم فطرتهم العميقة التي تدفع الإنسان دفعا إلى إغاثة الملهوف، ويحثهم على البذل والتطوع والعطاء ما يتوارد إلى أسماعهم من أخبار عن حجم الضرر والضحايا الآخذ في التعاظم مع بزوغ أشعة شمس أوّل أيام الزلزال.

وقد تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي عشرات بل مئات المقاطع المرئية والصور التي تعكس هذا الانفجار المجتمعي التضامني الواسع، ومن الفيديوهات التي انتشرت بشكل واسع وحازت عشرات الآلاف من الإعجابات والتعليقات ما تقاسمته صفحات وحسابات من تجمع لساكنة حي طنجة البالية بمدينة طنجة، حيث احتشد العشرات من المتطوعين، يستقبلون المواد الغذائية والألبسة والأغطية والأواني… التي يأتي بها الناس من كل حدب إلى عين المكان. تطاوع وتياسر في توزيع المهمات الصغيرة التي بها يكون المشهد العام المنظّم، وحيوية وحركية كأنها خلية نحل لا ينظر فيها الواحد إلى تضحيته وتعبه بقدر ما يرنو إلى النفع العام.

في هذا المشهد الأنموذجي، الذي قدمناه مثالا لمئات بل آلاف التجمعات التطوعية التي انبعثت في أرض المغرب الولّادة، قالت إحدى المتطوعيات والفخر الممزوج بالتعاطف يسم كلماتها: “لقد بادر الناس بشكل عفوي إلى التكافل هنا، وتجميع المواد الغذائية والسلع والألبسة والأغطية وكل ما يمكنه أن يساعد أخواتنا وإخواننا وأطفالهم هناك في الحوز”، وبدوره أحد الفاعلين المدنيين أكد أن “هذا الفعل غير غريب على المغاربة وثقافتهم الأصيلة، وهو أقل ما يمكن القيام به في مثل هذه المناسبة الأليمة”.

في لحظة إذا، ودون الحاجة إلى تعبئة وحشد وتحفيز، تحولت الشوارع والساحات إلى أفضية عمل ومنصات إرسال، تنوعت فيها الأشكال والفاعلون وتوحد المعنى والشعور. وفي خضم ذلك، انبعثت صورة ذاك الرجل المسن الممتطي دراجته الهوائية، قادما يتدحرج في هدوء، واثقا من طبيعة فعله وقيمة عمله، حاملا معه يد العون البسيطة الشكل العظيمة المعنى، ثم ليتسلل منسحبا في هدوء بعد أن أدى مهمته في “إخلاص”. لكن شاء المولى الكريم أن تنتشر صورته في الآفاق، لتكون درسا آخر من دروس العطاء والإخلاص.

وعلى النهج الساطع ذاته، تهادت تمشي الهوينى تلك المرأة المسنة، المتّكئة على عكّازها وهي تقصد وجهتها، حاملة معها قنينة من الزيت، قبل أن تسلمها إلى شباب أحد أحياء زاكورة الذين كانوا يجمعون المساعدات، قبل أن يقبل الشاب يد الحاجة إكبارا لفعلها الكبير. ثم سارت بذكر نماذج أخرى -نسجت على المنوال- ركبان الفيديوهات في وسائل التواصل الاجتماعي، ومعاني الإعجاب والاعتزاز تبصم الأيادي والقلوب وهي تفعّل خاصية “الإرسال”. 

من المشاهد الأخرى التي شدّت الأنظار وتم تداولها على نطاق واسع، صور تظهر عشرات الشاحنات والسيارات المحملة بالبضائع من شتى المدن، تمضي تباعا عبر الطريق السيّار، ميمّمة وجهتها صوب الحوز ومراكش وتارودانت وشيشاوة ومناطق الضرر. مشهد يجسّد بحق معاني الحديث النبوي الشريف “تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى”.

تضامن يخفف المصاب.. وهذه بعض الحاجيات الآنية

حسين اليوسفي، ناشط جمعوي، أشاد بالشعب المغربي “الكريم، المعطاء، المتعاون، المتكافل، المتآزر”، وهو يرى “المساعدات تصل تباعا؛ سواء من طرف الجمعيات أو من طرف المحسنين أو الأفراد، الجميع يشارك في عمليات الإنقاذ والدعم والإمداد، يقبلون أيضا على عمليات التبرع بالدم، من الناس من ملأ سيارته بالطعام وصعد إلى الجبال..”، معتبرا “هذه نعمة نحمد الله عليها، وهي من صميم عقيدتنا وهويتنا وثقافتنا المغربية”.

ونقلا لما عاين على أرض إقليم تارودانت، خصوصا في بعض دواويره وقراه المفجوعة، قال: “إن الأضرار كبيرة جدا: على مستوى الأرواح؛ فعدد الشهداء تجاوز حسب الإحصائيات الرسمية 500 شهيد في المنطقة. على مستوى الإصابات؛ مستشفى المختار السوسي بتارودانت ممتلئ عن آخره، بل ويتم تحويل بعض الحالات الخطيرة إلى مستشفى الحسن الثاني بأكادير. على مستوى البنية التحتية؛ أغلب الطرقات إن لم نقل كلها تضررت، خاصة المسالك، بعضها مُحي تماما، مما نتج عنه أن عددا من القرى والدواوير أصبحت معزولة كليا، الطرق المعبدة تضررت أيضا جراء تساقط الصخور وانجراف التربة، وهو ما يطرح مشكل الولوج حتى بالنسبة لأطقم الإنقاذ والمساعدات الغذائية”. هذا على مستوى القرى التي يصعب الوصول إليها، أما على مستوى المنازل؛ “فالعديد إن لم نقل كلها تضررت، منها ما تهدم نهائيا ومنها منازل تشققت وهي مرشحة للسقوط في أية لحظة”.

الفاعل الجمعوي الذي عايش أوضاع من تبقوا من الساكنة منذ بداية النكبة رصد بعض الاحتياجات التي تعد أولوية في الوقت الحالي، فهم محتاجون “بالدرجة الأولى للخيام وإلى المواد الغذائية وإلى الأدوية وإلى الملابس، خاصة ملابس النساء والأطفال، الأطفال محتاجون للحليب، محتاجون للماء، ولأواني الطبخ وقنينات الغاز والأفران”، ذلك أن الناس فقدت كل مستلزماتها والأجدى أن نمدهم بالوسائل كي يستطيعون مباشرة تلبية احتياجاتهم بأيديهم ويعودون تدريجيا لحياتهم الطبيعية السابقة.

شيء من التنسيق.. يرشّد المساعدات

فاعل ميداني آخر (من مراكش) كشف أن أول إنزال للقوافل كان يوم الأحد 10 شتنبر، وأنهم وجدوا من بقي من سكان مولاي إبراهيم، المنطقة التي تمت زيارتها، في حالة يرثى لها من الصدمة والجوع والبرد، فكان وقع وصول قوافل التبرعات، التي كانت عبارة عن مواد غذائية بالأساس، تباعا في اليوم نفسه، عظيما عليهم.

الناشط الجمعوي أخبر أن أبناء المنطقة الذين كتب الله لهم الحياة قاموا بتنظيم ما يصلهم من إمدادات بطريقة عقلانية تضمن توصل العوائل بما يحتاجونه، حيث تم تنظيف بيوت صمدت أمام الزلزال وجمعت فيها المواد، وتم تقسيم المنطقة إلى أحياء، خصص منزل لاستقبال المؤن في كل حي، وتعاون أبناء الحي لإحصاء الأعداد والاحتياجات.

المتحدث أشاد بحجم التضامن الشعبي وبأعداد القوافل الكبيرة جدا التي سدت الطرقات، وبتنظيم أبناء المنطقة المحكم وتحري العدل في التوزيع. وأكد أن الخصاص كبير، وهو ما سيتم العمل على سده في الأيام الموالية.

هذا التعاون وتنظيم العمل ساعد في إحصاء احتياجات المنطقة (ملابس، أغطية، أفرشة، أواني…)، خصوصا أن التبرعات الأولية ركزت على الأطعمة، وتم إخبار الفاعلين؛ الذين يعودون إلى مدنهم ليطلقوا النداءات للأهل والجيران وعموم الناس، يجمعون المساعدات ثم يقفلون عائدين.

هذا التواصل أعان الفاعلين على معرفة الخصاص والعمل بشكل منظم أكثر، بحيث يتم التركيز في كل يوم على نوع معين من الاحتياجات، آخرها أمس، يضيف الفاعل الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، كان مدهم بالكشافات الضوئية (les projecteurs) التي يتم ربطها بالأعمدة الضوئية من أجل استرجاع الإضاءة، وحاليا هناك حملة لجمع الأواني المنزلية.

نسأل الله تعالى أن يبارك جهود عموم المتطوعين من بنات وأبناء هذا الشعب الأبي وينفع بها، ونسأله عز وجل أن يكتب موتى الزلزال في الشهداء ويربط على قلوب ذويهم، ويعجل بالشفاء للمصابين، ويديم روح الأخوة والتضامن بين المسلمين جميعهم، في كل بقاع الأرض، ويعلي راية الإسلام؛ عنوان الرحمة للإنسانية جمعاء.