ما قام به الملك من إعفاء أربعة وزراء لا يعدو أن يكون تعديلا سياسيا يقع في كل البلدان وبشكل راتب، فَلِمَ كل هذه الجعجعة السياسية التي لا تقدم ولا تؤخر في مصير البلد في شيء؟
هي ترتيبات سياسية متصلة بسياق الالتفاف على ما قدم من فتات بعد 2011 وشملت عددا من المسؤولين، وكان لا بد لها من إناء ألمنيوم فارغ يحدث ضجيجا مثيرا عندما يلقى به منكوسا في الدرج المخزنية.. هذا كله يسمى في مجال تدبير السلطة ب “السياسة الصغيرة” التي تقوم بتغيير كثير من الأشياء كي لا يتغير أي شيء جوهري ويستمر الأمر على ما هو عليه. ولا علاقة لما حدث نهائيا بربط المسؤولية بالمحاسبة. لأن الحاكمين الفعليين بلوبياتهم الاقتصادية أكبر من أن تطالهم أي شرارة من شرارات هذه السياسة الصغيرة. ولأن معظم الإعلام الوطني في جبة هؤلاء فلا تنتظر منه إلا أن يصفق عند أول صوت صفارة أَمْرٍ بتضخيم ما جاءت به السياسة الصغيرة!
الأحزاب المتماهية مع بناء هذه السياسة العرجاء الهوجاء من أولها والخضوع لمنطقها والاستفادة من ريعها شريكة شراكة تامة في استمرار اللعبة، وبالتالي في استمرار تخلف بلد بأكمله ومعاناة أبنائه وبناته .
ومن أجل القيام بمثل هذا التعديل الحكومي البسيط كان يلزم أن يموت مغربي رحمه الله ورحم جميع الشهداء مطحونا في حاوية أزبال وأن يتظاهر أهل الريف أكثر من عشرة أشهر وتتدخل السلطة وتقتل شهيدا آخر وتعتقل أكثر من 400 شخص وتثير الرعب في منطقة بأكملها يطالب أهلها بجامعة ومستشفى وبنية تحتية ملائمة وخدمات اجتماعية في حدها الأدنى بغلاف مالي لا يتجاوز 630 مليار سنتيم!؟
المغرب، يا قومنا، يا سادة، في حاجة ملحة وماسة إلى “السياسة الكبيرة” التي تربط حقا وعدلا بين المسؤولية والمحاسبة حينما يكون رئيس الحكومة وأعضاؤها يضطلعون بالمهام التنفيذية حقا وحقيقة لا مجرد موظفين ينتظرون التعليمات من الحاكمين الفعليين. أو يخرج هؤلاء الحاكمون الفعليون إلى دائرة الضوء مباشرة ويعطوا الحساب للشعب عن المسؤوليات التي يتقلدونها حقا وفعلا!
السياسة الكبيرة هي الوعي بالتخلف الفظيع للبلد الذي، رغم خيراته المباركة، ما زال يعلن عن ناتج داخلي خام لا يتجاوز 100 مليار دولار منها، يا للعجب 84% ديون ! بمعنى أن صافي ما ننتجه يمثل 16 مليار دولار! كل ذلك طبعا مع حجب مداخيل الفوسفاط والمعادن الأخرى كالذهب وغيره والثروات البحرية وغيرها، والتي تقدر كلها بعشرات الملايير من الدولارات، والتي تهرب منها سنويا ملايير الدولارات أيضا .
السياسة الكبيرة أن توضع استراتيجية حقيقية للتنمية تعبأ لها كل طاقات البلد وتبدأ بالاستثمار السخي والمفتوح في التعليم الذي يعتبر المفتاح الأساس والرافعة الأساس لكل تقدم .
السياسة الكبيرة تقول أن هذا التقدم يستوجب ديمقراطية حقيقية تعطي الحقوق لأصحابها وتفصل بين السلط وتعطيها صلاحيات تامة وكاملة بموجب دستور ديمقراطي.
السياسة الكبيرة هي الإسهام في بعث قيم وأخلاق أمة تصدق مع الله ومع نفسها ومع الشعب وتقدر الأمانة حق قدرها وتستشعر الرقابة الإلهية عليها في ذمم الناس التي تحتها وفي مال الأمة الذي بين أيديها، وهي مطوقة في نفس الوقت بزواجر القانون الذي لا يميز بين الناس في التطبيق .
بغير هذا السبيل، سيبقى المغرب، يا قومنا، يا سادة، في تراجع مستمر ومخيف. الآن ما زال في الأمر سعة إن أردنا الاستدراك العاجل. هذه السعة إلى متى؟ علمها عند ربي في كتاب. والتردي المستمر معروف أن سرعته تتزايد مع الزمن ونخشى والعياذ بالله أن يأتي يوم يعسر فيه أي ترميم أو إصلاح وقد لا يبقى قرارنا الوطني بأيدينا فكيف التصرف وقتئذ؟!
هل من آذان واعية صاغية لأجراس الخطر التي ندقها ويدقها معنا كل الغيورين على هذا الوطن من كل الهيئات والمستويات الشعبية والسياسية والإدارية؟؟! نرجو ذلك صادقين. ولا حول ولا قوة إلا بالله. والحمد لله رب العالمين.