تقديم “نظرية الدعوة والدولة” من خلال مأزق النظرية السياسية لدى الحركة الإسلامية المعاصرة (5)

Cover Image for تقديم “نظرية الدعوة والدولة”
من خلال مأزق النظرية السياسية لدى الحركة الإسلامية المعاصرة (5)
نشر بتاريخ

ب- نظرية الدعوة والدولة ومدخل النظام السياسي القطري لا التنظيم العالمي

ولذلك اشتغلت نظرية الدعوة والدولة على المعنى القطري في حركتها، لكنه منفتح على هذا الأفق الجامع للأمة لواجب قيام نظام عالمي ينصف المستضعفين، ويوفر الشروط، النفسية والمادية والسياسية للاختيار الحر للإنسانية، التي تشكل (هذه الشروط) الأرضية الصلبة للعرض الحر لرسالة الإسلام للناس حيث لا إكراه في الدين، وهو ما يعني أن هذه النظرية لا تطرح مفهوم الخلافة بديلا عن النظام السياسي الاستبدادي القطري، ولا تطرح فكرة التنظيم العالمي للحركة الإسلامية كما تعرضه بعض التجارب الإسلامية منها “جماعة الإخوان المسلمون” بل فتحت في هذا المستوى من البناء المجال لنظرية الميثاق لترتب نظام الحكم القطري الحر بروح جماعية واعية تكون فيها الأمة متابعة ومحاسبة وراعية، لذلك نجد الإمام عبد السلام ياسين أعطى أهمية كبيرة لهذه النظرية (نظرية الميثاق) وفصل فيها تفصيلا في جل مؤلفاته، خاصة المؤلفات الحوارية وكتاب العدل الإسلاميون والحكم) نظرا لأهميتها وجدواها، الأمر الذي أكدته كل تجارب ماسمي الربيع العربي وما سبقها من أوضاع في جل الأقطار العربية والإسلامية.

علما أن فكرة الميثاق كما تشتغل عليها نظرية الدعوة والدولة ليست حركة فوقية تراهن على وعي النخبة بها فقط، حيث أتبت التجارب أن التحالفات السياسية الفوقية لا تصمد أمام أول منعرج وتتفتت إلى حد التقاتل الذي يكون سببا رئيسيا للانشطار المجتمعي إلى حد اللارجعة، بل هي ثمرة لوعي مجتمعي زاحف عبر إرادة جماعية تتوج بصياغة الميثاق من خلال سيرورة هذا الوعي والإرادة الجماعيين المجتمعيين في احتلال المواقع المجتمعية والسياسية وتحريرها من قبضة الاستبداد وتقويضه إلى حد الزوال وتمريض المرحلة الانتقالية بروح ميثاقية والانتقال إلى مرحلة الاستقرار الكامل بكل أمان مهما كانت التحديات والعقبات.

ولذلك نظرية الدعوة والدولة لا تؤمن بأي شكل أو صورة من صور العنف، بل لها المقومات الذاتية لبناء القوة المجتمعية غير العنيفة ومن دون عنف وبلا عنف. وهنا يتدخل مفهوم القومة منظما وناظما للاستراتيجية السياسية، التي ترعى بناءها هذه النظرية، بديلا عن مفهوم الثورة؛ ذلك أن هذه الأخيرة في تجاربها التاريخية لم تنفصل عن العنف والحرب؛ فإما تكون بعد حروب ضارية فتنتج عنفا، أو تؤسس لحروب ضارية بعد أن يتخللها العنف بين الفئات والطبقات في معاجلة المرحلة الانتقالية أو عند لحظة التخلص من الأنظمة السياسية القائمة، وهو ما يؤدي مع مرور الزمن إلى أن تأكل الثورة نفسها إن لم تأكلها الثورة المضادة التي لا ترحم، مهما كان وجهها باشا، رموز الثورة ونتائجها.

فانتباه الإمام إلى أهمية هذه القضية الحيوية في إنجاز التغيير جعله لا يتوقف عن تكرار الحديث عن الفروق الجوهرية بين مفهوم الثورة وبين مفهوم القومة، حيث يتجلى الاختلاف بينهما في نوع ومستوى الحوافز والدوافع لدى الثائر ولدى القائم، ويتجلى في المقاصد والغاية لدى كل واحد منهما، ومن ثمة يتجلى في أسلوب إنجاز مراحل القومة وفي أسلوب تدبير وتمريض مراحلها وفي جوهر وطبيعة النظام السياسي الذي تقيمه، لذلك قد يكون الثائر جزءا من القومة لما يُقوِّض فيه سياق وسيرورة هذه الأخيرة نزعاته العنفية، في حين لا يمكن أن يكون القائم جزءا من الثورة بأي حال وعلى أية حالة.

ولذلك فالقومة تجعل من أهدافها المباشرة تقويض أي نزعة عنفية في حركة المجتمع لتَعارضها مع طبيعة النظام السياسي والمجتمعي الذي تريد بناءه نظرية الدعوة والدولة عبر إشاعة معاني الرحمة والرفق والبذل والفتوة والقوة، وأن عملية التدافع إنما هدفها المباشر إقامة العدل لإنصاف المستضعفين وتحريرهم من قبضة أجهزة الاستكبار وسياساته المفضية إلى الاستعمار بكل صوره وأشكاله، وهو ما يجعل من مهام هذه النظرية بناء النظام العالمي الذي يقوض فعل الاستكبار من خلال الضغط على الدول المستكبرة لتكف عن استضعافها للشعوب أو الثورة/القومة ضدها إنصافا للمستضعفين، وهي وظيفة الأمة مجتمعة مع تحالفها مع الدول المستضعفة بغض النظر عن دينها. الأمر الذي يدلل على أن نظرية الدعوة والدولة لا تقف عند النظام القطري أو النظام العالمي بمعناه السياسي بل تتحرك إلى موافقة حركة الإنسانية لحركة الكون عملا على تقويض كل أنواع الفساد والإفساد التي يمكن أن تنتج بعامل هيمنة الاستكبار.

ت- نظرية الدعوة والدولة وشرط القيادة الربانية

وهنا تبرز أهمية، بل حتمية، القيادة الربانية لحركة المجتمع المسلم في اتجاه حريته والقيام بمهامه الوجودية، ذلك أن نظرية الدعوة والدولة غير متوفرة لا معنى ولا مبنى دون هذه القيادة الجامعة.

لذلك حرصت هذه النظرية على وصف نوع القيادة التي تبنيها وتسهر على تنزيل مقتضياتها، لأن هذه القيادة، الزاهدة في الدنيا وفي كل مظاهرها، والمميزة بنفاذ البصيرة وقمة في التواضع، والعاملة بحكمة الشريعة، والمتصفة بمعاني الرحمة والرفق والشجاعة في الحق، هي المؤهلة للجمع حيث في نفس الوقت الذي ترعى فيه حياة الدعوة إلى الله تعالى وبناء مؤسساتها الساهرة على قوة الأمة ووضوح أفق حركتها وقضيتها، في نفس الوقت ترعى، في سياق نظام الشورى والحرية، الفضاء الذي يسهر على حركة الدولة عبر مؤسساتها لتؤدي وظيفتها بكامل الثقة والاستقلالية وخدمة لأهداف القوة والوجود التاريخي للأمة وأفرادها ومكوناتها لتقوم برسالتها التاريخية.

لقد أثبتت تجارب الحركة الإسلامية المعاصرة، خاصة مع ما سمي بالربيع العربي، أن القيادة العلمائية لم توصل وحدها إلى بر الأمان، ونفس الأمر بالنسبة للقيادة الفكرية أو السياسية المحترفة للسياسة، أو حتى الجامعة بين الفكر والسياسة، مهما كان المضمون الفكري الذي تحمله هذه القيادة.

ومن هنا كان وضوح نظرية الدعوة والدولة عاملا هاما في كشف مضمون القيادة التي ينبغي أن تقود حركة التغيير داخل المجتمع المسلم، وتقود مقاومة الاستكبار العالمي، الأمر الذي لا ينقص من قيمة الفئات السابقة، وإنما يؤكد على أهمية هذه النماذج مع التدقيق في أدوارها ومواقع هذه الأدوار ضمن حركة المجتمع عامة التغييرية والبنائية.

إن من ميزات القيادة الربانية أنها زاهدة في السلطة، وهو ما يحقق الضمانة الحقيقية للرهان على الفصل بين مؤسسات الدعوة وبين مؤسسات الدولة، حيث تشكل الأولى الإطار المرجعي الجامع الذي يضمن الحرية للجميع والسند المنظم الكبير لحركة الدولة المتفرغة للسهر على نظام تدبير الحياة اليومية للمواطنين على مبادئ الحرية والكرامة والعدل السياسي والاجتماعي.

إن نظرية الدعوة والدولة لا تراهن بالأصل على المؤسسة كيت أوكيت لا في مرحلة المعارضة ولاما بعدها، لكنها تراهن على الشعب وتنظيمه على قوة ووضوح يضمنان التنافس والتدافع الشفاف والسليم، ثم بعد ذلك بالتبعية تأتي أدوار المؤسسات، وهو ما يجعل الشباب، وفق هذه النظرية، في قلب العملية السياسية والمجتمعية مرحليا واستراتيجيا ومصيريا.