منذ إقرار الحق في ممارسة الإضراب قبل أكثر من 60 سنة في دستور 1962 والحكومات المتعاقبة بالمغرب تسوف وتؤجل إخراج قانون منظم للإضراب، إلى أن مررت حكومة أخنوش بالبرلمان يوم 5 فبراير 2025 مشروع القانون التنظيمي رقم 97.15 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، تطبيقا للفصل 29 من دستور 2011 في تحد للحركة النقابية والشغيلة عموما وبعيدا عن المقاربة التشاركية.
ترى ما هي سياقات إخراج مشروع قانون الإضراب؟ وماهي أبرز مواد المشروع المثيرة لاحتجاج النقابات والشغيلة عموما؟ وهل تخمد “بهارات التعديلات” “نار الاحتجاجات”؟
1- سياقات إخراج مشروع قانون الإضراب
أ- سياق محلي
أهم سماته تغول السلطة على كل ما هو اجتماعي؛ ابتداء من غلاء الأسعار وتردي الخدمات، مرورا بتراجع الحقوق بكل أشكالها، وانتهاء باتكاء الحكومة على أغلبيتها العددية لتمرير جملة قوانين لاشعبية تضرب في الصميم النسيج المجتمعي وتوسع الفوارق بين أبناء الشعب الواحد.
جولة سريعة بمواقع التواصل الاجتماعي تفضح أثر السياسات الحكومية على فئات واسعة من الكادحين؛ جراء المتاجرة بقوت المغاربة وجشع لوبي المال والأعمال وتجار الأزمات، وجراء التدابير الحكومية المعطوبة التي رهنت أمن المغاربة الطاقي والغذائي والدوائي… للخارج، والمفارقة أننا ننتج ما ليس ضروريا للمغاربة بهدف التصدير ونستورد ما هو ضروري، فيما مؤشرات البطالة والفساد والتضخم وغلاء الأسعار تنذر بالأسوأ؛ مع ارتفاع المديونية بشكل كارثي وثبات الناتج الإجمالي الخام والانخراط في إنجاز مشاريع ضخمة استعدادا لاستضافة كأس العالم 2030 بشراكة مع الجارتين الشماليتين إسبانيا والبرتغال.
وبلغة الأرقام:
– ارتفع معدل البطالة في المغرب إلى أعلى مستوى له، ببلوغه نسبة 21.3% حسب نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024، وهو ما اعتبره مراقبون “رقمًا مخيفًا” يعكس “فشل السياسات الحكومية” في مجال التشغيل.
– وبخصوص مؤشر الفساد أشار تقرير “الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها” لعام 2023 إلى ضعف انخراط المؤسسات الحكومية والإدارية بالشكل المطلوب في تفعيل الاستراتيجية الوطنية، حيث تراجعت مرتبة المغرب من المرتبة 73 ضمن 180 دولة سنة 2018 إلى المرتبة 97 سنة 2023، وقد تفاعلت الحكومة سلبيا مع تقرير هذه الهيئة، بل عبرت عن انزعاج واضح منه، لأنه كشف أن حكومة أخنوش ليس من أولويتها محاربة الفساد، كيف لا؟ ورئيس الحكومة متهم بتضارب المصالح في صفقة محطة تحلية مياه البحر في الدار البيضاء، بالإضافة لقضايا أخرى منها التلاعب في أسعار المحروقات.
– فيما أشارت المندوبية السامية للتخطيط أن غالبية الأسر المغربية أبدت بنسبة 97.5% استياءها من ارتفاع أسعار المواد الغذائية خلال الـ12 شهرا الماضية. كما تتوقع نسبة 83.3% من الأسر استمرار ارتفاعها، خلال السنة المقبلة؛ ما يضع المزيد من الضغوط على الوضعية المالية للأسر.
– غلاء الأسعار: مع اقتراب شهر رمضان تزداد المضاربات واحتكار السلع ما ينتج عنه ارتفاع مهول للأسعار، كل ذلك يجعل الأرقام الرسمية المفترضة في تناقض مع الواقع الملتهب. ذلك أن غالبية الأسر المغربية لم تكفّ عن الشكوى من ارتفاع أسعار معظم السلع الأساسية التي تستهلك الجزء الأكبر من إنفاقها، رغم ادعاء الحكومة التحكم في التضخم وتأكيدها دعم القدرة الشرائية.
ب- سياق دولي
ليس خفيا أن العلاقة بين الدول تعرف صراعا وتدافعا بغرض الهيمنة والسيطرة، وأن موازين القوى هي العامل الحاسم في تحقيق ذلك، وأن تغيرات عالمية جديدة رافقت عودة دونالد ترامب لرئاسة البيت الأبيض متبنيا قيما قومية وشعبوية أعمق وسياسة خارجية تعتمد نهجا نفعيًا وبراغماتيًا يركز بشكل أساسي على تحقيق المنافع الاقتصادية والمادية للولايات المتحدة، كما تجلى في شعاره “أمريكا أولاً”.
المؤكد أن العالم سيواجه مع صعود ترامب في أمريكا واليمين المتطرف في الغرب عصرا جديدا من الهيمنة والفوضى والعنصرية، حيث تسعى الشركات الكبرى العابرة للحدود للتحكم في الشعوب والتحكم في مصادر الطاقة والمواد الأولية من خلال تفكيك الحكومات لصالح القلة الأكثر ثراء، وبتعبير واضح فرض حكم الشركات والباطرونا على شعوب العالم الثالث.
ومع التوجهات الاقتصادية والمالية الأمريكية والغربية عموما، غير المتوازنة، نحو دول العالم الثالث باعتبارها مناطق نفوذ وأسواقا تجارية ومصادر للطاقة والمواد الأولية، وسعيها لتأبيد التبعية بكل أبعادها من خلال سن تشريعات دولية ووطنية مساعدة، يمكن استيعاب وفهم تأثير السياق الدولي.
في ظل هذين السياقين الضاغطين وغير المساعدين يأتي مشروع القانون التنظيمي رقم 97.15 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب ليزيد حالة الاحتقان في صفوف الشغيلة المغربية، التي تعاني أساسا أزمات اجتماعية وتكافح للحفاظ على ما تبقى من مكاسب وحقوق.
2- أبرز مواد المشروع المثيرة لاحتجاج النقابات والشغيلة عموما
أ- تعريف الإضراب
تمت إضافة تعديل جوهري على المادة 2، حيث أضيفت إمكانية تنظيم إضراب من أجل الدفاع عن المصالح غير المباشرة للعمال بالإضافة إلى المصالح المباشرة، هذه الصياغة فيها تشويش صريح على الإضراب التضامني أو السياسي وهو ما يتناقض مع الحق في ممارسة الإضراب بالمرجعية الدستورية أو الاتفاقيات الدولية التي وقعها المغرب.
ب- الدعوة للإضراب
المادة 3 حصرت الدعوة للإضراب في “منظمة نقابية أكثر تمثيلا على الصعيد الوطني…” و”منظمة نقابية ذات تمثيلية على الصعيد الوطني… في وضعية قانونية سليمة…” و”منظمة نقابية أكثر تمثيلا على صعيد مرفق عمومي…” و”لجنة الإضراب وفق ما هو مبين في المادة 12″… هذا الحصر والتقييد للحق في الدعوة للإضراب المراد منه التحكم في حركة الشارع، ولنا في حراك التعليم العام الماضي نموذجا حين فرض إعادة صياغة مرسوم النظام الأساسي الذي وافقت عليه النقابات بالإضافة لحراك المحامين والمهندسين وطلبة الطب… وحيث إن الإضراب حق دستوري وباعتبار الشارع فضاء للتعبير، فإن التنسيقيات وغيرها من التعبيرات بجماهيريتها ومشروعية مطالبها ستبقى موجودة عبر كل أشكال الاحتجاج من إضرابات ومسيرات واعتصامات ووقفات برغم مشروع القانون التكبيلي مادامت النقابات عاجزة عن استيعاب مطالب التنسيقيات واحتضان مناضليها، وما دامت الدولة تتنكر للاتفاقية الدولية 87 بشأن الحريات النقابية، والاتفاقية الدولية رقم 98 بشأن تطبيق مبادئ حق التنظيم والمفاوضات الجماعية.
للإشارة ففئة “اللامنتمون” الذين يتصدرون الانتخابات لم يعرهم المشروع أي اهتمام، لا في التنظيم ولا في المفاوضة الجماعية، برغم توصية المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الذي نبه لهذه الفئة في رأيه حول مشروع القانون 24.19 المتعلق بالمنظمات النقابية سنة 2021.
ثم إن تكرار كلمة نقابة في وضعية سليمة يخفي تحكما وقيدا من نوع آخر، حيث إن السلطة ترفض تسليم وصولات الإيداع والتجديد للكثير من المكاتب النقابية ضدا على الحق في التنظيم النقابي.
وفيما يحصر مشروع القانون الدعوة للإضراب بالمقاولة أو المؤسسة بالقطاع الخاص في لجنة الإضراب في غياب وجود منظمة نقابية أكثر تمثيلا في المادة 12، فإنه بذلك يهمش مؤسسة مهمة: مناديب الأجراء، ويحرم لجنة الإضراب من الدعوة للإضراب في حال وجود نقابة أكثر تمثيلا.
ت- آجال تنفيذ الإضراب
رغم تقليصه بمجلس النواب لـ10 أيام للتفاوض عوض 30 يوما في حالة الإضراب حول قضايا خلافية في القطاع الخاص، وتثبيته في 15 يوما قابلة للتجديد مرة واحدة في حالة الإضراب من أجل ملف مطلبي لرفع الأجور في القطاع الخاص، وتثبيته في 45 يوما قابلة للتمديد 15 يوما في حالة الملف المطلبي لرفع الأجور في القطاع العام، برغم ذلك يبقى تحديد آجال الإضراب من الأمور الخلافية الكبيرة والقيود الثقيلة للإجهاز على الحق في الإضراب، علما أن نجاعة الإضراب تبقى في الحرية في تحديد وقت تنفيذه من طرف ممثلي الأجراء.
أما آجال الإخطار، فقد تم تقليصها من 15 يوما في نسخة 2016 إلى 7 أيام في نسخة مجلس النواب، وإلى 5 أيام في نسخة مجلس المستشارين باستثناء الإضراب الوطني حيث تم الإبقاء على 7 أيام كأجل للإخطار.
ث- الغرامات
رغم تخفيفها من 5000 – 10000 درهم إلى 1200 – 8000 درهم حتى لا يطبق الإكراه البدني على المضربين، فإنها تبقى جد ثقيلة وتشكل تهديدا يحد من ممارسة حق الإضراب.
ج- الدعوة للإضراب
تم تقليص عدد أجراء المقاولة أو المؤسسة الذين يتخذون قرار الإضراب إلى 35% في نسخة مجلس النواب لتصبح 25% في نسخة مجلس المستشارين، ورغم ذلك فإن هذه النسبة تبقى جد مرتفعة وشبه تعجيزية لممارسة حق الإضراب، بل السؤال المطروح لماذا تحدد نسب لاتخاذ قرار الإضراب أساسا؟
الآن وبعد التعديلات التي أدخلت على النص الأصلي وتمرير المشروع بالمجلسين النيابيين بعيدا عن طاولة الحوار الاجتماعي، ينتظر أن ينتقل السجال إلى الميدان بين النقابات والحكومة لإيصال صوت الشغيلة للمحكمة الدستورية عل وعسى.
3- هل تخمد “بهارات التعديلات” “نار الاحتجاجات”؟
في حين يشيد وزير التشغيل بالتعديلات التي أدخلت على المشروع في نسخته الأولى وينوه بأن “النص عرف تطويرا كبيرا نزولا عند رغبة العمال والنقابات، من خلال إعطاء الأفضلية للمقتضيات التي تكون في صالح الشغيلة والنقابات كلما تعلق الأمر بحالة تنازع في التشريعات الجاري بها العمل”، وأنه استجاب لتعديلات المعارضة والنقابات،اعتبرت المعارضة النيابية أن طريقة إخراج هذا النص “لم تحترم منهجية الحوار الاجتماعي والتوافق”، وأن “القانون مغلف بتقويض الحق في الإضراب ويجهز على حق دستوري أساسي،” فيما طالبت النقابات الحكومة بالتراجع عن جميع القرارات والقوانين التي تستهدف المكتسبات الاجتماعية والحقوق والحريات، وإيقاف مسطرة إقرار القانون التنظيمي للإضراب، مع العودة إلى طاولة التفاوض الجاد والمسؤول مؤكدة استعدادها لمواصلة النضال بكل الأشكال الاحتجاجية السلمية دفاعًا عن الحق في الإضراب وكافة الحقوق والمكتسبات الاجتماعية.
بين استقواء الحكومة بأغلبيتها، التي لا تمثل غالبية المغاربة، وتمريرها لمشروع القانون 15-97 ضدا على إرادة الشغيلة، والذي زاد من حالة الاحتقان، وضعف النقابات وتشتتها وعجزها عن إسقاط المشروع وعدم جديتها في ذلك، تبقى الآفاق مفتوحة على المجهول بفعل التجريف الممنهج الذي تمارسه السلطة لمؤسسات الوساطة من أحزاب ونقابات وجمعيات…
4- ختاما
ورد في المثل الشعبي: “الخيل تعرف مولاها… والماء يعرف مجراه” وهذا يؤكد أنه في حالات الإكراه والقمع والتقييد المقنن فإن الجماهير تبدع من الأشكال ونماذج التدافع والنضال الميداني ما لا قبل لعقليات القمع والضبط به.
وكل مشروع للإجهاز على الحقوق والشغيلة المغربية يقظة ومتحفزة ومستعدة للنضال، لأنه ما لا يأتي بالنضال يأتي بمزيد من النضال.