تلطف وعتاب

Cover Image for تلطف وعتاب
نشر بتاريخ

تنبيه رفيق

قال الله عز وجل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد، 16-17]. روى الإمام القرطبي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقولM ما أحدثنا؟ وروي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية فقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله يستبطئكم بالخشوع” [تفسير الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي].

عتاب رقيق، وتلطف من المولى الكريم بعباده المؤمنين أن تصيبهم في دينهم غفلة فتفسد قلوبهم ويضلوا السبيل، من أجل ذلك ذكرهم الله عز وجل، ونبههم بعتابه الرفيق، ليستمسكوا بعروة الدين، ويكونوا يقظين وعلى دينهم حريصين.

كذلك يحيي الله الموتى

إن القلب في بداية إقباله على الله عز وجل يكون رقيقا خاشعا، مقبلا غير مدبر، لكن هذا الإقبال إن لم يتعهده العبد قد تخبو بواعثه، ويبلى إيمانه. وقد يطول الأمد على الإنسان، ويطول أمله فيسترخي، ويتبلد حسه، وتهبط همته بعامل الغفلة عن الله التي هي من أشد وأخطر ما يخشى على العبد، فيحتاج هذا القلب إلى ما يحييه بعد موته ويجدد الإيمان فيه.

فكما تجف الأرض إذا شحت السماء بالمطر، تجف وتجوع القلوب إذا انقطع مددها وجف معينها الذي هو ذكر الله وتذكر الآخرة، ولهذه الحقيقة أشار سبحانه في الآية: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد، 17]، فالذي ينزل الغيث من السماء فيحيي به الأرض الجدباء بعد موتها، قادر على إحياء القلوب التي دعاها للإقبال عليه، وتجديد العزم والعهد معه سبحانه بالذكر والتوبة واليقظة لتقوم له كل إرادة راكدة، وتعزم على طلبه كل همة باردة.

لحظة يقظة وتوبة

لقد فعلت هذه الآيات الأعاجيب في تاريخ المسلمين، في قلوبهم خاصة. فهذا الفضيل بن عياض كما نص على ذلك القرطبي في تفسيره، كان قاطع طريق عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ، فرجع القهقرى وهو يقول: بلى قد آن، فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة (أبناء السبيل)، وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلا يقطع الطريق، فقال الفضيل: أواه أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك عند بيتك الحرام. فكان بعدها من كبار الزهاد والصالحين، حتى اعتبر في وقته إمام التائبين. روى الذهبي بسنده قال: قال إبراهيم بن الأشعث: ما رأيت أحدا كان الله في صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذكر الله، أو ذكر عنده، أو سمع القرآن، ظهر به من الخوف والحزن وفاضت عيناه وبكى حتى يرحمه من يحضره. وروى أيضا بسنده عن ابن المبارك أنه قال: ما بقي على ظهر الأرض ـ عندي ـ أفضل من فضيل بن عياض.

من يعتبر!

عجبا! كيف يتحول الإنسان من قاطع طريق إلى زاهد في لحظة؟ إنها يقظة القلب من سباته حين قرعت آيات الله أسماعه ووجدانه، فلامست فطرته فأيقظتها بفعل نداء المولى الكريم؛ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا استفهام وحض وتحضيض، دعوة كريمة من الكريم تهيب بالإنسان كل إنسان بالعودة والإنابة والإقبال على الله وإصلاح القلوب بعد فسادها.

وينوع الله عز وجل في كتابه الخطاب لعباده تحذيرا وتبشيرا، قال سبحانه: لهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ۚ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ۚ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر، 16]، وقال عز من قائل: فَٱسْتَقِيمُوٓاْ إِلَيْهِ وَٱسْتَغْفِرُوهُ [فصلت، 6]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحديد، 29]. كل هذا التذكير والتحفيز عسى أن يطرق يوما هديه أسماع قلوبنا كما طرقت هذه الآية أسماع قلب الفضيل بن عياض.

فإن كانت لا تحركنا الإهابة القرآنية، ولا تجد فينا آذانا واعية لها، فلعل تفحصنا لأنفسنا صباح مساء، ومقارنة تخاذلنا عن التوبة والإقبال على الله بالعمل الصالح بإقبال غيرنا على الله من الأحياء والأموات، ثم استحضار الموت وأهواله، والآخرة ومنازلها، والجنة ونعيمها، والنار ولهيبها… يلين قلوبنا فتسارع لما يحييها وينجيها دنيا وآخرة، مما دلت عليه آيات الله من التوبة والذكر ومحاسبة النفوس قبل أن يفوت أوان ذلك. عن سيدنا عمر رضي الله عنه قال: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم من الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم. وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى عليكم خافية” [رواه الإمام أحمد].

اللهم أحي قلوبنا بذكرك، وصرّفها على طاعتك، واجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين.